الأحد، 20 مارس 2011

حقائق وملاحظات أساسية حول الشاعر



مات محمود درويش!

2
بأدب جمّ استقبل، طوال حياته، كتابات الكتاب، ونقد النقاد، وأطروحات الدارسين له ولأدبه، وبصمت. لم يُدل برأي، ولم يعلق، ولم يخرج عن حدود الكياسة واللباقة، رغم أن كل ما تقدم من جهد كان، عملياً، يشكك الشاعر بقدرته على الإفهام، وعلى مخاطبة الوجدان الانساني.. ويقلقه على مشروعه الشعري!
 
عشرات الكتب، والمقالات، والدراسات النقدية، كتبت حول البرتقال في شعر محمود درويش، والحجارة في شعر محمود درويش.. إلخ. هل منها شيء يمكن ان يخرج عن إختصاصات وزارة الزراعة..!؟
ناهيك ببقية الكتابات بإهتماماتها، التي هي من صلب عمل وزارة التنمية السياسية، إن وجدت!
وتخيلوا المأساة..
كان درويش الشاعر الذي كتبت عنه، في حياته، عشرات المؤلفات النقدية، ولكنها كلها، وهذا حالها، لا تقدم للشاعر شيئاً، ولا تفتح أفقاً جديداً لشعره، ولا حتى تفسره..!

3
وفي الأثناء..
ينشغل كثير من النقاد العرب في توصيف مكانة الناقد؛ بعضهم يضعه في مرتبة المؤلف المشارك، وغيرهم يضعه في مكانة المؤلف العارف والزاهد بالابداع، وآخرون يعدونه مؤلفاً على التأليف، يضيف للمادة المؤلفة ألقها وضياءها وسناها..
ولكن هذا ممكن الاعتبار في حال واحدة..
حينما يواكب الناقد الكاتب وكتابته، ويؤشر على الأشياء والمعاني والأسلوب، ويؤثر في أداء الكاتب..
وهذا لا يحدث..
ولم يحدث..
لا مع درويش، ولا مع سواه!

4
يجب القول أنني لست ناقداً، ولا أتمتع بالخصال السامية، التي تؤهلني لأن أكون واحداً من معشر النقاد(!) إنني وحسب قارئ متمهل لدرويش. مهتم بما يكتب عنه، ولا أجد، في نقد درويش، وفي الدراسات حول درويش، شيئاً مما يثيره شعر درويش في رأسي، وفي فكري!
وإنني اليوم، وقد مات درويش، أتساءل: هل هو خيالي المفرط وعاطفتي الجياشة يهيئان لي أن ثمة خصالاً أساسية في شعر درويش واضحة وبيّنة؛ ولم تذكر في آلاف الصفحات التي كتبت عنه.. أم هو الاستعجال ومحدودية الاطلاع على الانجاز النقدي، الذي قدمته بالضرورة أسماء لامعة، إمتنّت على درويش أنها إلتفتت إليه، وقبِلَ هو الإمتنان كياسة وتأدباً!؟
ربما.. 
لا دخل لي في المسألة..
ربما..
لي رب فأسأله..

5
ومات محمود درويش..
ولأنه مات، وددت لو أعرف شيئاً عن تكرارات معينة في اللفظ والمعنى. علامات أساسية، تلح عليها قصيدة درويش، ودرويش نفسه، ولا ينسحبان منها، هي:
-        ميله الشديد، وبإلحاح يحمله من قصيدة إلى قصيدة، إلى مسحنة فلسطين!
-        تأكيده على الجليل والناصرة هوية لمأساة الفلسطيني!
-        عدم اطمئنانه لقصيدته!

6
تقدم قصيدة محمود درويش فلسطين مسيحيةً، ويقدم، هو نفسه، نفسه، في قصيدته مسيحياً؛ وباعتقادي أن الشاعر الموغل في القراءة، لا يفعل ذلك مخاطبةً لغرب مسيحي معاصر؛ ولكن.. لأن الفكرة المسيحية (لا الاسلامية التوفيقية) هي ما ينقض الفكرة اليهودية (الاحتلالية)!
إنها معادلة إزاء معادلة..
الحق التاريخي مقابل الوعد التوراتي (التاريخي)..!
هذا أولاً..!
وثانياً..
لم يتخلّ محمود درويش عن صورة المسيح في دمه، ويصرّ على النسب الذي يشده إليه، ويربط شعباً كاملاً بتضحيته!
وبدرجة ما، ينشد إدانة تاريخية لقتلة التاريخ، ولمغتصبي الحق التاريخي، ولمزوري الإرادة الإلهية..! 
لذا يؤكد مراراً وتكراراً..
أنا الناصري الجليلي.. إلخ!
وثالثاً..
ربما لا يتمتع محمود درويش بجرأة شاعر مبتدئ.. أو ناقد مقتنع؛ وقد يكون لي من الحق والشواهد ما يجعلني أجزم بذلك فعلاً. ولكنه ترك على الأرض، في قصائده، فضيلة التشكك وعدم الاطمئنان إلى قصيدته. ذلك الهاجس الذي بعبر عنه في كل قصيدة!
وربما يكون هذا المقطع من القصيدة المعروفة، التي كتبها في ساعة انتظار الموت، وحملت عنوان: "لا أعرف الشخص الغريب"، شاهداً واضحاً من عشرات الشواهد الواضحة في شعره، ومن مئات أخرى غير واضحة!
يقول:
"وقد تكون جنازة الشخص الغريب 
جنازتي 
لكن امرأً ما إلهياً يؤجلها
لأسباب عديدة
من بينها..
خطأ كبير في القصيدة!"
الأدهى.. أن أحداً لا يختلف على مكانة درويش المتفردة والمتميزة، وكتب نقده تبجيل وتأليه في تأليه (غير أنها أبداً لا تفي بالغرض)؛ ولكن درويش في سنواته الأخيرة، وقد جزم تقريره الطبي بأنه إلى نهاية، يعزو تأخر النهاية، عن الموعد العلمي الطبي المحتم، إلى "خطأ كبير في القصيدة"..
إنه ليس أدونيس، الذي يسيل قلمه بكلام منزلٍ، يهبط به وحي من شعرٍ..
إنه ليس أدونيس، الذي كل ما ينشره، بالضرورة، سبقٌ شعريٌ مُستلٍ من لوحٍ محفوظٍ..
فاعبدوه..

7
لا أدري..
ولكني ربما أتجنى على الشاعر وأغمطه حقه. وربما أنسب إليه ما لا علاقة له به!
وربما كنت أريد بكاءه، فلا أجد الطريقة والوسيلة..
وربما هو حبي للعربية وللشاعر، الذي جسّر بين قديم لفظها ومبناها وجديدهما..
ربما..

8
وعود على النقاد الأفاضل..
لم يجدوا من معنى وتأويل في تكرار اسم "ريتا" في شعر الشاعر إلا أن درويش كان يحب فتاة يهودية (باعتبار الاسم، رغم أنه يتوزع بين الثقافات والحضارات)؛ ولم يفطن أحد، من النقاد أصحاب الثقافات الموسوعية، إلى أن "ريتا" في الثقافة المسيحية، التي يستحضرها درويش، وينتصر بها، هي قديسة القضايا المستحيلة..!
وهل هنالك من مستحيل معاصر مثل قضية فلسطين..!
أولم يقولوا أنه شاعر الثورة الفلسطينية والشعب الفلسطيني..!؟
فمن أحق به من مناجاة القديسة "ريتا"!
سئمتُ..!

9
وبعد..
أختم من القصيدة الأثيرة، بإسمي وبإسم الأحياء "أبناء عم الموت":
"قلت لنفسي
هل يرانا
أم يرى عدماً ويأسف للنهاية..!؟"
                                                   (نشرت في "الأيام" الفلسطينية، الثلاثاء 8 ديسمبر 2009، أعيد نشره في "العرب اليوم" الأردنية 9 مارس 2011)

ليست هناك تعليقات: