الأحد، 8 أبريل 2012

بعثيون لا "إخوان"!


أشغلت نفسي، ذات مرة، بعقد مقارنة بين "الإخوان المسلمون" و"البعثيين"، فاستطالت قائمة الفروقات والمفارقات إلى درجة أنني عزفت عن تدوينها، واستدعائها، رغم أنه لزم استذكارها في أكثر مناسبة كفر فيها "الأخوان" لكثر ما يتبجحون!
 
وهذه عجالة من الفروقات والمفارقات:

بنى البعثيون دولاً وأنظمة، نوافق على أنها لم تكن ديمقراطية (وعلى أية حال، لم تكن الديمقراطية، في زمنهم، أولوية في ثلاثة أرباع العالم) ولكنها تبنت مشروعاً تحررياً خاصاً؛ بينما عاش "الإخوان المسلمون" كمجموعة طفيلية على المجتمعات العربية ودولها، وعملت دوماً على تقويض هياكلها المدنية..

أنتج البعثيون فكراً يحاول أن يقدم مقاربة عربية للأفكار التقدمية والإنسانية؛ بينما قدم "الإخوان المسلمون" عصابات دينية، وتناسخوا فكراً متطرفاً، وتوالدوا منظمات ظلامية، تضرب في المجتمعات العربية، وتقتص من قواها التقدمية..

قدم البعثيون رجالات فكر ودولة ومناضلين بقامات عالية، بينما اقتصر انجاز "الإخوان المسلمون" على تقديم رجالات بذقون طويلة، وقيادات بهمم خائرة، وزعامات بضمائر متهافتة..

وجد البعثيون أنفسهم في تناقض مع أنظمة الرجعية العربية، وخاضوا نضالات مع بقية القوى التقدمية ضدها؛ بينما تحالف "الإخوان المسلمون" مع هذه الأنظمة وشاركوا في قمع القوى الحية في المجتمعات العربية لصالح برنامج الرجعية العربية..

اصطدم البعثيون بالقوى الإمبريالية وأعداء الأمة، كما وعدوا في مسار طويل وواضح، بينما تاريخ "الإخوان" مع القوى الامبريالية وأعداء الأمة يشبه تاريخ شركة "بلاك ووتر" وصفقاتها السوداء، وخدماتها الدموية في مختلف أنحاء العالم..

اندفعت القوى الامبريالية والرجعية العربية لتقويض الأنظمة البعثية والتخلص منها؛ بينما دعمت "الإخوان المسلمون" وتحالفت معهم، وهي اليوم تجتهد لتسليم السلطة لهم في شتى الدول العربية..

في أسوأ ما مرّ على البعثيين هو تناحرهم وانقسامهم، ولكن حتى هذه المثلبة عكست اجتهاداتهم المختلفة الحرة النابعة من واقعهم المحلي؛ بينما بقي "الإخوان المسلمون" دائماً، في كمونهم ونشاطهم، عصبة متضافرة، ولكن انطلاقاً من واقع الدور الوظيفي المناط بهم دوليا من قبل الدوائر الامبريالية..

لم يعرف عن البعثيين الارتباط الوظيفي بقوى خارجية؛ ولكن تاريخ "الإخوان المسلمون"، كتنظيم عالمي وتنظيمات محلية، مليء بالتفاهمات والارتباطات غير المفهومة والمريبة، وتكفيهم فتواهم للتحالف مع "أهل كتاب" الأمريكان في أفغانستان ضد الصديق السوفيتي "الملحد" والشعب الشقيق المسلم..

البعثيون، ككل القوى غير المرتبطة بالإمبريالية، لحقت بهم هزائم فادحة دفعوا ثمنها غالياً، وقبل ذلك كانوا يدفعون ثمن وجودهم، بينما "الإخوان المسلمون" يُصرفون من الخدمة حالما ينتهي دورهم في المرحلة المحددة، ويذهبون في سبات عميق إلى أن يتم استدعائهم ثانية..!

السبت، 31 مارس 2012

لم يكن ربيعاً بل حرباً غاشمة


بات "الربيع العربي" بحكم المنتهي؛ توقف مده، ونضبت قوته الدافعة، ولم يعد من المحتمل أن يمتد أو يتوسع أو أن تنتقل عدواه إلى دول جديدة. والاحتمالات الضئيلة بهذا الشأن لا تبدو وثيقة الصلة بحالة التأجج السياسي التي شهدناها على مدار عام، وستأخذ سياقاً آخر لا علاقة له بالمفاهيم التي راجت حول ما يسمى بـ"الربيع العربي"، بغض النظر عن مدى دقة هذه المفاهيم.
في المحصلة، وبميزان الأرباح والخسائر، جاءت كلفة "الربيع العربي" عالية جداً، تجاوزت في تأثيرها المدى المتوسط على أقل تقدير، لا سيما أنه فشل في أن يكون حالة انتقال من وضع إلى وضع، أي من نظام إلى نظام، ليمثل حالة انتقال من نظام إلى وضع انتقالي طويل مضطرب لا يعرف الاستقرار، حيث الفوضى واختلال الميزان الاجتماعي وتهميش الدولة، وتحطيمها في أحيان أخرى (ليبيا) وتعطيلها في البقية الباقية من دول "الربيع العربي".
محصلة "الربيع العربي" من الأرباح والخسائر تساوي بحسبة متواضعة خسارة حرب كبرى؛ فـ"الثورات" التي نجحت بالإطاحة ببعض الزعماء، لم تتمكن من الإطاحة بالأنظمة، ولكنها ضربت آليات عمل الأنظمة، وأفقدتها القدرة على العمل الروتيني الحياتي الذي يمس حياة محدودي ومتوسطي الدخل، ولم تتمكن في كل الأحوال من الاستيلاء على الأنظمة، أو أن تبني أنظمة جديدة محلها.
وأسوأ من ذلك، أن العطب أصاب الدولة وأجهزتها في أكثر من بلد عربي مر عليه "الربيع"، وأوقف حركة اقتصادها، ووضعها على شفير الهاوية؛ ناهيك عن أن "الربيع" أتى على الجيوش في ليبيا وتونس، وورط الجيش اليمني في صراع أهلي، وأشغل الجيش السوري في عمليات داخلية، ووضع الجيش المصري في صدارة الفعل السياسي، ونقله إلى نقطة الاحتكاك السهلة وغير مأمونة العواقب مع الشعب.
ومثل هذا الواقع تمر به الدول على إثر خسارة الحروب!
الكلفة مرتفعة، إذن، والأرباح لا تذكر؛ ولا يغير غناء بعض القوى المستفيدة شيئاً من فداحة هذا الواقع. وبالتالي، لا مناص من توقع آثاراً سلبية على المدى القريب والمتوسط على أقل تقدير. مع الأخذ بعين الاعتبار أن حالة عدم الاستقرار السياسي والاضطراب الاجتماعي التي تعيشها بعض بلدان "الربيع العربي" لها كلفتها الفادحة أيضاً.
من أسوأ الآثار المتوقعة هو التقسيم الذي تلوح بوادره اليوم في ليبيا، وهذا قد يجر إلى ما هو أسوأ منه: الحرب الأهلية، وهذه غيومها تلوح بالأفق الليبي أيضاً. الخطر نفسه بتداعياته يحدق باليمن رغم المسكّن السياسي الذي يتعاطاه، ويخدر اضطرابه الواسع.
هناك إلى جانب ذلك تعكير صفو العلاقات العربية العربية وإصابتها بمقتل، وهو ما ينعكس على مجمل العمل العربي المشترك ومؤسساته، وهو أمر له تداعياته المؤكدة. ومع انهيار العمل العربي المشترك ومؤسساته، من المتوقع أن يتوزع العالم العربي بمجمله كمناطق نفوذ، وبالتالي سيكون محزنا أن نرى هذه المنظومة تعمل ضد نفسها، ليس كنتيجة للخلافات التي لطالما كانت موجودة، بل على قاعدة العداء المكشوف، لأسباب غير عربية، ولا علاقة لها بتباين المصالح والآراء الداخلية!
في عمق أحداث عام ما سمي "الربيع العربي" شاهدنا عالماً عربياً طائشاً، مستعداً لفعل أول ما يخطر بباله، دون تبصر أو سؤال؛ ورأينا جمهوراً لا يتمهل ولا يتوجل من المساس بنسيجه الوطني، ولا يأبه كثيراً للقيم الوطنية التي تحفظ نقاء حراكه، فرأينا استدعاءً للخارج العربي والأجنبي على حد سواء؛ ورأينا أجزاء من العالم العربي لم تر في ما يجري إلا فرصة للانتقام من آخر عربي؛ وبدرجة ما بدا أن "الربيع" نفسه ليس ثورة شعوب ضد أنظمة، بل ثورة أنظمة عربية على أخرى.
ويمكننا إدارك أخطر النتائج، وأسوأ الآثار المترتبة، حينما نسأل عن ما قدمه وما يمكن أن يقدمه "الربيع العربي" لشعوب البلدان التي مر بها في مجال هدفه الأول الذي كان مبرره الأساسي؛ أعني الحرية والديمقراطية، حيث نجد بالمحصلة نفسها أن ليس هناك دولة من دول "الربيع العربي" حظي شعبها بضمان الحرية والديمقراطية وحكماً مدنياً. بل على العكس من ذلك، فإن "الربيع" نصب على شعوب هذه الدول قوى سياسية بعينها، وأوكل إليها مهمة وضع القوانين الأساسية الناظمة للحياة السياسية، وعلى نحو غير ديمقراطي.
والأسوأ في هذا المجال أيضاً أن الشعوب خسرت في بعض تلك البلدان مكاسب اجتماعية كانت تملكها؛ فليبيا "الربيع العربي"، مثلاً، تراجعت عن كثير من المكاسب التي كان يعتبرها الشعب الليبي حقاً بديهياً لا نقاش فيه، وكان النظام الليبي السابق المترهل يضمنها رغم ديكتاتوريته وترهله.
في السياق نفسه، تم التراجع عن كثير من المكاسب المدنية التي لم تكن موضع سؤال، وتم تعطيل السؤال المدني برمته من خلال توكيل قوى دينية؛ والمعضلة الأساسية أن توكيل هذه القوى لم يأت تسليماً بقوة تمثيلها، بل انطلاقاً من المعرفة المسبقة بتعارضها مع الواقع التاريخي ومع الطموحات المدنية للشعوب التي خرجت إلى الشوارع. الأمر الذي يعني تعطيل "الثورات"، التي لم تنجح القوى المعادية في اصطيادها في لحظتها الأولى (مثلما نجحت في ليبيا)، في مرحلة مؤقتة صعبة وطويلة ومفتوحة على خيارات دموية.
وفي المحصلة، تراجعت شعوب "الربيع العربي" من سؤال البحث عن نظام سياسي اجتماعي جديد وأكثر تطوراً إلى المهمة البديهية البدائية في البحث بكيفية بناء الدولة، وإحياء ثقافة المواطنة، وبناء الوطنية؛ ونعرف أن الثورات تأتي دائماً جاهزة بالإجابات على هذه الأسئلة، بينما الحروب الغاشمة تجتاح الشعوب وتعيدها إلى مستنقع هذه الأسئلة والمهمات البديهية.
لم تكن هذه ثورات، بل كانت حرباً مرت بنا، وأخذتنا على حين غرة!

الجمعة، 20 يناير 2012

بريماكوف.. وظيفة رسمية

ولد بريماكوف في العاصمة الأوكرانية كييف، ونشأ وترعرع في تبليسي عاصمة جورجيا، وقادته أول محاولة له لخدمة الدولة إلى باكو عاصمة أذربيجان؛ ومن المؤكد أنه لا ينتسب لأي من هذه المدن، على الأقل من ناحية الأم. 

لذا، فقد يخطر للمرء أن يجتهد بالتفكير برجل ارتبطت أهم أحداث حياته الأولى (وبالتالي: وعيه) بالعواصم، ويضع هذه الحقائق كإشارة قدرية لمستقبله الزاهر في عاصمة تلك العواصم!
على العموم، فالنسخة الميلودرامية لسيرة حياة بريماكوف المعتمدة منه شخصياً، تشدد على العاصمتين الأولين، وتغفل الثالثة.. ربما لأنها كانت محاولة أولى وفاشلة، غير ناجحة، طرقت باباً غير موفق، لمهنته المستقبلية التي برع بها، وجاءت له بالشهرة والنفوذ!
على أن "مهنة" بريماكوف نفسها ستظل شيئاً غامضاً، وزئبقاً لم يمسكه أحد مسك اليد أبداً، لا في الأمس ولا اليوم، لا الخصوم ولا الرفاق، لذا فإن أبرز الفاشلين في التعامل معه هم أولئك الذين وثقوا به وتعاملوا معه بالصفة التي قدم نفسه بها؛ أما من تجنبوا الفشل، فهم أولئك الذين تعاملوا معه بحدسهم، وهؤلاء بالذات حولوه لا شعورياً إلى صديق. ليس تقرباً منه، ولا تقريباً له، ولكن ليتعاملوا معه باسمه وصفته الشخصية، بدلاً من الصفات والمسميات، التي لم تكن تثير القناعة ولا الثقة، وكانت تبدو خادعة وخداعة!
هؤلاء بالذات أدركوا، تالياً، أن "يفغيني بريماكوف"، بدوره، ليس مجرد اسم يشير إلى شخص. بل مسمى يشير إلى وظيفة رسمية. أما الآخرون فينتبهون اليوم إلى هذه الحقيقة!
وعودة إلى النسخة الميلودرامية لسيرة حياة بريماكوف المعتمدة منه شخصياً؛ فهي تبدأ بـ"ولد في كيف، ومباشرة بعد انجابه عادت أمه به إلى عائلتها في تبليسي". وهذا السطر، الذي يتردد في كل النبذات والمطولات السيرية يردد صدى الرواية التي كتبها بريماكوف بنفسه، يكشف عن أمرين: الأول، أن الرجل الذي كان يمكنه أن يكون والد بريماكوف تنكر لأمه، ولم يعترف بحملها. الثاني، أن لدى الوالدة عائلة متضامنة ومحبة جعلتها تؤثر العودة إليها في محنتها، ولذا لن يكون غريباً أن العائلة ستكون دائماً الملاذ الآمن الذي سيحرص بريماكوف على تشييده وصيانته بدأب.
يمكننا أن نلحظ من ذلك أيضاً، أن الوالدة قطعت دراستها في كييف، وهنا ثمة تضحية لا يمكن جحدانها (هل يجب أن نتذكر نيكسون وأمه القديسة، هنا؟)، وأن اسم المولود يفغيني مكسيموفيتش بريماكوف يشير في مقطعه الأول إلى الوليد نفسه، وفي الثالث منه إلى عائلة الوالدة التي نسب إليها، أما المقطع الثاني، فيمكن أن يكون اسم والده، الذي تنكر له. أو ربما يكون اسماً افتراضياً يعجب الوالدة.، أو واقعياً يعجبها صاحبه.
لا يرد في كل كلام بريماكوف عن نفسه وحياته ووالدته ما يشير إلى أنه عرف يوماً، أو اهتم بمعرفة والده. والفكرة العامة التي يحتمي بها من الأسئلة التي يمكن تهاجم هذه "الحقيقة"، هي أنه كان وحيد أمه، لذا فقد كانت شديدة الحرص عليه. 

ودرجة الحرص التي يتحدث عنها بريماكوف تجعلنا نعتقد أن أمه الجريحة بالنكران لم تكن تتعايش مع فكرة أن هناك انسان ما يشاركها الحق في المولود. أما حرصه على التأكيد بأنه وحيد أمه، فيدفعنا للتيه بين فكرتين: إما أنه يقصد الدفاع عن طهارة أمه، التي اكتفت بنصيبها من الحياة بما نالته من جحدان، أو أنه يحاول الاشارة إلى فرادته الخاصة.
ولا يمكن أن لبريماكوف أن يؤكد على كلام، بالحرص على استخدام نفس المفردات، إلا إذا كان يريد أن يقول شيئاً محدداً، علماً أنه لا يأتمن المفردات، ويطمئن إلى تعدد المعنى، وتعدد المعنى (ولاحقاً: الصفات والمسميات والتخصصات) أمر يحتاج على معارف دقيقة ورثها من ثقافة أمه وتميزها!
بالمحصلة، فإن تعدد وتتنوع الصفات والألقاب والتخصصات التي تستخدم في الإشارة إلى بريماكوف، ليست سوى واحدة من تجليات وضعه الانساني، الذي يصدف أنه معني شخصياً به، ويحرص عليه، وهو كذلك قناعه الواقي، الذي قدم نفسه به إلى الآخرين، وكونه من طبقات من الصفات والمسميات، التي لا تثير القناعة ولا الثقة، وتبدو خادعة وخداعة!
وإذا كان الآخرون لا يستطيعون الوقوع على بريماكوف في تعدد طبقات الصفات والمسميات، فإن الرجل نفسه لا يستطيع أن يعرف نفسه مجرداً من كل ما يشوش على الآخرين، ويمنعهم من معرفته!
إن قراءة سيرة حياة بريماكوف بقلمه ومقارنتها بما كتب بأقلام الآخرين، تثير سؤالاً: من كتب بقلم من؟ وهل كتب بريماكوف عن نفسه بأقلام الآخرين، أم أن الاخرين استعاروا قلمه للكتابة عن سيرته؟
وهذه السير جميعها توضح دون قصد حاجة بريماكوف للعائلة، وتمر كلها دون قصد كذلك على فكرة انه استعاض لاحقاً عن عائلة والدته بعائلة زوجته. وقد لا يكون دون معنى أن نلفت الانتباه إلى أن بريماكوف اقترن بموسكو من خلال الانتقال للدراسة فيها، وكان قد تزوج قبل ذلك من حسنائه الجورجية لآورا خارادزيه، وعاش معها نحو أربع عقود قبل أن تموت في أواسط الثمانينات، ولم يكن من المتوقع أن يتزوج بعدها، لولا أن عضوية اللجنة المركزي للحزب الشيوعي السوفيتي جعلته يسترخي أكثر للإمتيازات "الدنيوية"، فتزوج من المراة التي تم تعينها طبيبة رسمية له. 

وهذا شيء شبيه ببريماكوف، الذي يمكن أن يتقبل برحابة صدر أن تعيّن له الدولة إبناً، أو حتى جداً..!
لا ينتهي الحديث عن بريماكوف هنا، فالذين يتعاملون معه باعتباره روسي مستعرب، لا يدركون أن في تفاصيل حياة الرجل أشياءً تجعل من هذا التوصيف ليس دقيقاً بالقدر الكافي؛ فهو بالتأكيد على كل ما سبق، لم ينشأ ويترعرع في تبليسي فقط، بل والتصق بالمكان الجيورجي، وتزوج إمرأة تنتسب له، وأجاد لغته، قبل أن يتعلم العربية في موسكو؛ وعليه، ربما كان على من يحاولون فهم بريماكوف البحث في "جيورجيته" تماماً كما يبحثون في "روسيته"!
وهذا يجب أن لا ينسينا أن الرجل صنع "مستقبله" الزاهر، أو بالأحرى.. وظيفته الرسمية، بالإعتماد على لغتين: الروسية والعربية. أما اللغة الثالثة، فهي لزوم حاجات بريماكوف المتعدد في محددات هويته الشخصية، لدرجة يصعب تصور أنه يمكن اختزالها في بطاقة واحدة!

الأربعاء، 18 يناير 2012

بريماكوف.. وطنية إنكشارية

تجاوز يفغيني بريماكوف الثمانين عاماً من عمره، "ومن يعيش ثمانين حولاً، لا أب لك يسأم"؛ وبمفهوم ما، لا أب لبريماكوف. غير أن بريماكوف، في وجدانه وقرارة نفسه، لا يفكر بالرجل الذي ارتبط بأمه، ولم يره أبداً. ولكنه يفكر بأبيه الذي يعيش في كنفه إلى اليوم: الدولة!
لم يشكل غياب الأب، من حيث المبدأ، مشكلة عند بريماكوف المولود في أواخر العشرينات من العهد السوفيتي، المجتمع الذي لا يمثل فيه الإنجاب خارج الزواج مشكلة، وليست له عواقب خاصة، لا سيما وأنه يمكنه أن ينتسب لعائلة والدته، بينما الدولة تتكفل بواجبات الأبوة المادية، أما الواجبات العاطفية فلا يمكنها ان تكون غائبة تماماً في دولة ومجتمع يقدسان الأطفال، خصوصاً من لديهم "احتمالات" حرمان.
وبالمقابل، فإن تجاهل تأثير غياب الأب تماماً، وكونه مجهولاً، لا يبدو تقديراً حكيماً؛ فالرغبة بالانتساب إلى أب، والشعور بوجوده بالقرب، عوضها بريماكوف مبكراً بمشاعر حميمية تجاه ذلك الشيء الغامض، الذي كانت تتوجه إليه الوالدة لحل ما يعترضها من مشكلات حياتية. ولهذا لم يكن غريباً أن تقع الدولة من نفسه موقع الأب.
في مرحلة متأخرة من طفولته، تحديداً في السنوات ما قبل الأخيرة من المدرسة، أخذت الفتى بريماكوف ميول جياشة غامضة نحو الانخراط في خدمة الدولة، من خلال رغبة عارمة في الانتساب لمدرسة عسكرية تستقبل الأطفال بعمر المراهقة، وانتسب بالفعل إلى الكلية البحرية في باكو، ولم تدفعه سنتان عايش خلالهما ألونا من العذاب لتركها؛ غير أن الأطباء اكتشفوا مرضه (الربو) الذي يجعل منه غير مناسب لهذا المجال، فتم فصله من الكلية، ليعود إلى تبليسي ليواصل دراسته الثانوية.
وستظل تلك الميول الغامضة، التي قادت بريماكوف إلى محاولة خدمة الدولة والعيش في فنائها، من خلال الإنخراط في مدرسة ذات طابع انكشاري، حاضرة في محطات سيرة حياة الرجل، الذي تتعدد وتتنوع الصفات والألقاب والتخصصات التي تستخدم في الإشارة إليه. ولكنه سيحول لاحقاً وسائله في تحقيق حاجته لـ"الإنتماء" من ذلك الطابع الانكشاري إلى نوع من الولاء الهادئ، ولكن المستقر والثابت.
وعليه، سيكون من الملازم لصفات بريماكوف الانسانية تقدمه بوتيرة مستقرة، لا بل ومتصاعدة، في وقت تتعثر فيه الطريق بمن هم بموهبته وقدراته وموازاته، وسيكون دائماً بمنجى عن آثار التحولات التي تمرّ بمجتمعه وتطيح بمن هم أشد منه مكنة وقوة. ويبقى رجلاً مطلوباً رغم انهيار الأنظمة وتغيرها، ويعمل مع الجميع ويصادقهم دون أن يذمه أحد من قادة المراحل. بل وربما يخصونه بمشاعر ودّ لا تحتملها التجربة، ولا يتوقع أحد أن يحملها سياسي مهزوم لسياسي باق في الميدان.
وإذا أخذنا مجاز زهير بن أبي سلمى وتمعنا في قوله "لا أب لك" ومقتضياته، لأدركنا أنه لا يعني الحالة الاجتماعية بل مقتضياتها الأخلاقية المفترضة في ثقافتنا المحلية، ولدهشنا أن الأمر لا يختلف كثيراً مع رجل من زمن آخر تماماً، ومن مجتمع مختلف كلياً، ومن ثقافة مناقضة بالمطلق، بحيث أضحى يؤكد مقولته.
لقد عمل الرجل مع الإدارات السوفيتية التي عاصرها جميعاً، دون أن يترنح مع من انهار أي منها، وواصل حياته المهنية بسلام ودون أي مطبات؛ وأطاحت عملية تغيير النظام بالدولة السوفييتة، ولم تطح به. عمل مع جورباتشوف ولم يذمه. ثم عمل مع يلتسن. ثم بوتين، ولا يزال، دون أن يفقد اطلالته من شرفة السلطة.
لقد بنى بريماكوف مجده في بلاده والعالم، على انه صديق زعماء من مثل صدام حسين وغيره، ولكنه لم ينبس ولم يهتز ولم يبد، ولو حتى رياءً مثل بوش، أي اشارة احتجاج على الطريقة الشنيعة التي تم إعدام صديقه العراقي بها؛ ولم يصدر عنه لغاية اللحظة أية إشارة اهتمام بما يتعرض صديق عراقي آخر له من حيف، رغم أنه بنى أمجاداً وسمعة دولية بما أشاعه هو عن صداقة جمعته بطارق عزيز. 

وما يجعل الأمر اكثر فداحة أخلاقياً، أن بريماكوف، الذي هو أكثر الساسة الروس نفوذاً في الغرب منذ بدايات الثمانينات، ويؤخذ على محمل الجد أكثر من جورباتشوف بمئات المرات، وهو الأقدر في العالم أجمع على تزعم حملة تضامن تمنح طارق عزيز وفاة هادئة بين أفراد أسرته، ولكنه لا يفعل، ولن يفعل!
لقد كانت أهم مواهب بريماكوف، وأسوأ نقطة ضعف اتصف بها، هي الرغبة في القرب من أهل السلطة. وهذا شيء فهمه أقرانه، وتلمسه محتاجوه، ورغب فيه مستغلوه. فقد كان من المريح للأجهزة السوفيتية استخدام موهبته في التقرب من القادة والزعماء، الذين لا يرغبون في علاقة رسمية معهم، باستخدام شخصه الذي يسعى بلا صفة معلنة؛ وكان الراغبين في ايصال رسائل للقيادة السوفيتية يرتاحون لمقدماته التي تعطي ايحاءً بأن المسافات قريبة بينهم وبين القطب الأحمر، في حين أن مستغليه أدركوا نقطة ضعفه، وأمطروه بالتسهيلات، وجروه إلى محادثات دورية، يقصد منها تطويع العقل.
ومن أفدح حالات الاستغلال، التي عاشها بريماكوف، اتصالات اسرائيلية جعلته يتوهم بأنه "سيأتي بالذيب من ذيله"، وسهرات ليلية طويلة في مكتب الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، الذي كان يؤكد له أنه "يهتم شخصياً" بحصوله على ما يحتاج من مراجع من "مكتبة الأسد العامة"!
ولم يكن بريماكوف يهتم، بدوره، أن كل ما كان يحصل عليه لأبحاثه هو شيء متاح للعامة، طالما ان ذلك كان يتيح له بالمقابل أن يكون قناة مفتوحة مع سيد الشام، وبشكل غير رسمي؛ وهذا شيء كان يسجل له في موسكو بميزان حسناته الشخصية، ويطرب مشغليه في وسط العاصمة الروسية!
لقد احتاج بريماكوف أشياء كثيرة في حياته، واستطاع تعويضها. احتاج الأب وعوضه بالدولة، احتاج العائلة، فعوضها بعائلة والدته، احتاج النجاح فعوضه بالديمومة والثبات، ولكن شيئاً واحداً لم يستطع أن يعوضه: إنسان مخلص قريب ينبهه إلى فداحة ما يغفله بينما هو ينضم إلى كيسنجر في رئاسة لجنة تسعى لبناء سمعة إنسانية!

لقد كان بريماكوف، وما يزال إلى اليوم، الأقدر على رؤية التشققات في أي جدار، والأقدر على ملئها، بأفكاره، أو بدوره، أو حتى بسمعته. ولِمَ لا..؟ فهو سياسي انكشاري!

الأحد، 15 يناير 2012

لافروف.. الحرب والسلام


يستطيع خصوم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الأكثر تشدداً منه، أن يتعاملوا معه بازدراء بوصفه مجرد "دبلوماسي"، أو "سياسي مريض بالدبلوماسية"، ولكنهم سيكونون محقين ومخطئين بنفس الوقت.
سيكونون محقين بالإشارة إلى مهنته الدبلوماسية كمكون أساسي في رؤيته السياسية، وفي استراتيجيته الخاصة بإدارة السياسة الخارجية الروسية. بينما يخطئون حينما يحاولون القول أن ذلك يقيد نظرته وعمله.
والطريف في الأمر، أن لافروف يجد متسعاً للدبلوماسية في الاستراتيجيات الخاصة بالسياسة الخارجية الروسية، ليس من باب أن الدبلوماسية واحدة من الأدوات التقليدية للسيطرة على الصراعات وإدارة العلاقات الخارجية، ولكن تحديداً من منطلق القناعة (الخاصة) بمفاعيل حتميات يؤكد عليها منتقدوه من اليساريين الروس: وراء غطرسة الدول الغربية تكمن أزمة الرأسمالية العالمية!
يرى لافروف، كما يشير في واحدة من مداخلاته، أن الحديث عن التنمية المستدامة من خلال الاعتماد على أفكار الليبرالية الرأسمالية مستحيل تماماً. وهو يعزو إلى النظام الرأسمالي العالمي، الذي تقف في طليعته الولايات المتحدة والدول الغربية وتحول مدفوعاً بحكم مفاعيل أزمته الداخلية نحو سياسات متوحشة، كل ما يعيشه العالم من مواجهات ساخنة ودموية؛ ويرى أن الغرب الرأسمالي الذي بلغ هذه النقطة لن يتراجع عنها إلا مهزوماً؛ وهو بحسب ما يرى يتراجع بالفعل، ليس انطلاقاً من رغبة واعية في ترشيد الأداء والفاعلية، ولكن تحت ضغط الفشل ومخاطر الانهيار.
وهنا، لافروف لا يشعر بالراحة قدر ما ينتابه شعور بالخطر، فالدبلوماسي الذي خدم السياسة طويلاً و"السياسي المريض بالدبلوماسية" لا يمكنه أن يتحول في ساعة إلى ثوري فيرتاح لتسلم التاريخ زمام المبادرة، ليتم مهام التغيير على طريقته العاصفة، ولا هو ينشد تغييراً شاملاً يأتي على "النظام العالمي" برمته..!
وللدقة، فإن ملاحظات لافروف على الرأسمالية هي بالتحديد ملاحظات سياسي، يمثل واحدة من الدول الرأسمالية الجديدة الصاعدة، ويوجهها إلى "نظام عالمي" تسيطر عليه المراكز الرأسمالية الغربية التقليدية، التي ترفض إعادة صياغة هذا "النظام" والتشارك مع الدول الصاعدة في إعادة صياغته وقيادته. ومن هنا، فإن انتقاداته تذهب باتجاه رأسمالية المراكز الغربية التقليدية، والإلحاح على "نظام عالمي" جديد تتصدره مراكز جديدة نشأت في الشرق وخارج المنظومة الغربية.
ويقلق لافروف هنا، إذ يرى أن النموذج الذي بلغته المراكز الغربية التقليدية يدفعها إلى محاولة استعادة الأنماط العدوانية المباشرة، وتسبب في عجز النظام الرأسمالي عن إدارة علاقات سلمية، وتجعله غير صالح لإدارة العلاقات الدولية، بل وتحوله إلى نمط خطر على السلم العالمي. وفي السياق، فإن هذه العدوانية التي تعيش تحت ضغط العجز والفشل قد تحاول أن تستمد طاقة جديدة من مواجهات "محسوبة" في الساحات الخلفية، ولكن هذا لن يعفيها من القلق الذي يبعثه فيها نشوء تلك المراكز الرأسمالية خارج المنظومة الغربية، كما لن يعفي هذه "المراكز الجديدة" من القلق حول احتمالات المواجهة وأشكالها المتوقعة.
لذا، فهو يقترح المواجهة السياسية، التي تضع حداً لفرص تطبيق الأنماط العدوانية المباشرة، والمشاغلة الدبلوماسية التي لا تقتل القتيل، ولكن تترك له الفرصة لأن ينهار بحكم الواقع. وهنا، يمكن أن نلاحظ في مشاغل رئيس الدبلوماسية الروسية بضعة اهتمامات مركزها:
  • الحقائق الكبيرة حول الإقتصادات الجديدة، التي هي على أقل تقدير تجعل من المستحيل الحفاظ على الرأسمالية العالمية بهويتها الغربية، طالما انها تكسر احتكار الدول الغربية للمركز الراسمالي.
  • بروز الدول الإقليمية، كقوى فاعلة سياسياً واقتصادياً، وتتمتع بالحصانة العسكرية، وتمحورها في أنماط من التعاون الذي يصب بالنهاية في خانة توسيع نطاق الفعالية الاقتصادية والسياسية لهذه الدول على حساب فعالية المراكز الغربية وصدارتها الدولية. والحديث هنا يدور حول إنهيار المفهوم التقليدي "العاجز" لما يسمى بـ"العالم الثالث".
  • الحقائق السياسية الجديدة (لم تكن "الأحداث العربية" في البال) في قائمة طويلة من الدول الصغيرة، التي كانت تدور ذاتياً في الفلك الغربي – الأمريكي، وتحطم آليات السيطرة الجمعية الأمريكية على هذه الدول، بحيث باتت استمالة كل واحدة منها تتطلب جهداً خاصاً ومستقلاً، وبالتالي مكلفاً. وهنا، حديث عن بدء إنفراط عقد "الهيمنة" وتآكل فعالية أدواتها.
وللدقة، أيضاً، فإن لافروف لا يعول على انهيار الرأسمالية العالمية، ولكنه يرى في داخلها بروز منظومات جديدة تهدد مكانة مركزها الغربي التقليدي، وهذه بالذات عملية تتسم بالهمية والحسم، كونها لا تسير بالبطء التاريخي، وتتحقق بسرعة الإصطفاف السياسي، المدفوع بنشوء مصالح جديدة وقوية ومنافسة على الأطراف، تمتلك زخماً صراعي الطابع.
وبمعنى آخر، فإن ثمة معادلات دولية جديدة ناشئة، وقيد النشوء، وهي لا تجد ترجمتها للآن على أرض الواقع، ليس لأنها غير فاعلة، بل لأن ثمة قوة سياسية وعسكرية (هيمنة) تعيق أخذها بعين الإعتبار؛ ولكن من المستحيل على هذه "الهيمنة" بالمقابل الاستمرار بتجاهل هذه المعادلات، سلمياً. وعلى الأرجح فإن الرغبة في الاستمرار بذلك ستقود إلى محاولة إلغاء هذه المعادلات بالإستعانة بالجيوش.
في هذا السياق، يقر لافروف بصعوبة الحفاظ على نمط المواجهة السلمية بين الإقتصادات الجديدة التي تستند إلى التنمية والموارد المادية والبشرية، واقتصاد المديونيات التي تحميها الجيوش. ولكنه يشدد على ضرورة أن تبقى هذه المواجهة سياسية بدرجة ما، دبلوماسية بدرجة أكبر، على أن الأمر الحاسم والأساسي يكمن في بناء منظومات بديلة وموازية للمركز الرأسمالي الغربي وقادرة على مزاحمته؛ فالمواجهة السياسية لا تشكل بذاتها ضمانة، فقد تصل إلى جدار مسدود أمام استعداد عدواني لا عقلاني.
وهو ينبه، إن كان في هذا العالم ثمة من يخوض صراعاً للدفاع عن مصالحه، فإن الغرب يطمح لمواجهة يتحاشى من خلالها نهاية مكانته وأفضليته في قمة النظام الرأسمالي العالمي. أي أنه يدافع عن وجوده كـ"غرب"..!
والدفاع عن "الوجود" أكثر شراسة من الدفاع عن المصالح!

الجمعة، 13 يناير 2012

لافروف.. الروسي العنيد


الشيء الذي تجب معرفته حول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف هو أنه صاحب "خدمة طويلة"؛ فقد عرف عنه أنه لا يستلم موقعاً بشكل مؤقت، أو ليغادره بعد مدة قصيرة. 
السِجل الوظيفي لـ لافروف في كل موقع يتراوح ما بين ثمان وعشر سنوات. وحتى فترات عمله الأقصر، في بدايات مهنته، لم تكن قصيرة بالفعل، إذ شغل وظيفتين: الأولى في السفارة السوفيتية بسيريلانكا لمدة أربع سنوات، والثانية بوزارة الخارجية سكرتيراً ثان ثم أول لقسم المنظمات الإقتصادية الدولية لمدة ست سنوات.
وهذا يؤشر على أمرين: الأول، أنه لم يكن يوماً خياراً طارئاً بالنسبة لمن يرشحه، وأنه ينأى بنفسه عن الاصطفافات والمغامرات الشخصية في مجال الوظيفة السياسية، ويتضح هذا من عزوفه عن قبول مناصب وزارية تم ترشيحه لها في عهد الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن، ومنها وزارة الخارجية ووزارة التجارة والعلاقات الاقتصادية الخارجية.
والثاني، أنه في عمله ينتزع لنفسه نوعاً من التفويض الواسع، والولاية الكبيرة على موقعه؛ وهو ينجح اليوم في استعادة ولاية وزارة الخارجية على السياسة الخارجية الروسية، بعد نحو أكثر من عقد ونصف تحولت فيها الوزارة من واضع سياسات في العهد السوفيتي إلى مجرد جهاز لتنفيذ أفكار سياسية مرتجلة يمليها جورباتشوف والنخبة الضيقة من المنهارين السياسيين الذين أحاطوا به، ثم يلتسن وحاشيته الضيقة من أباطرة الطغمة المالية التي شاركته الحكم.
يؤخذ على الرجل أنه مريض بالدبلوماسية، فهو يلاحق المباحثات والمفاوضات والمشاورات إلى نهاية النهايات، بالرغم من أنه يمكن أن يصفها لرؤسائه بـ"غير المجدية" أو "بلا أفق" أو بغير ذلك من الأوصاف المماثلة، التي تؤكد أنه لا يعلق عليها أية آمال. وليس في هذا عدمية ما، ولكنه يرى أن "الأطماع الجشعة" لدى الآخرين تتيح المجال لـ"المشاغلة الدبلوماسية".
ويؤخذ على الرجل، من جهة أخرى، أنه غضوب، ولا يتورع عن اظهار حدة الطبع، ويستطيع أن يكون فظاً فيخوض حربا على طاولة المفاوضات إن استدعى الأمر ذلك. وهو على ما يعلق البعض صاحب وجه معذب لا يتعاطى الابتسام أمام الكاميرا، ويرتاح للتجهم. فيما يرى آخرون في لحظات فظاظته، نزق قوة عظمى تعيش في وجدان الرجل، وتجد صعوبة في التعايش مع أولوان التكاذب الدبلوماسي، التي أضحت اليوم واحداً من فنون الإحتيال على حقائق القوة والواقع. 
وهو هنا يذكر بخلف شهير، هو عميد الدبلوماسية السوفيتية اندريه جروميكو، الذي روج الغرب عنه مقولة أنه "لا يضحك حتى للرغيف الساخن" ولقبه بـ"مستر نييت"، أي "السيد لا"؛ ومن المعروف أن هذا الأخير تمت تنحيته عن وزارة الخارجية بعد ثلاثة عقود من إدارتها وهيمنتها على السياسة الخارجية السوفيتية من قبل جورباتشوف، الذي وصفته مارجريت تاتشر يوماً ما بـ"صاحب ابتسامة ساحرة تخفي أنياباً قاطعة"..!
وقد يكون من المفيد هنا، تذكر سيرة عميد الدبلوماسية السوفيتية اندريه جروميكو، فقد بدأ حياته المهنية شاباً في العشرينات رئيسا لقسم البلدان الأمريكية في "الخارجية"، ثم مستشارا في سفارة الاتحاد السوفيتي في الولايات المتحدة. وترأس وهو في الرابعة والثلاثين البعثة الدبلوماسية السوفيتية بواشنطن، وشارك بهذه الصفة في إعداد وعقد مؤتمرات يالطا وبوتسدام ودومبرتون- اوكس وسان فرانسيسكو، التي شكلت النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. وأصبح في العام 1946 أول مندوب للاتحاد السوفيتي في هيئة الأمم المتحدة، ثم تم تعينه على رأس وزارة الخارجية في العام 1957.
وفي المقابل، فإن سيرة لافروف، خريج معهد العلاقات الخارجية التابع للوزارة عام 1972، الذي تخصص في الثقافات الشرقية، ارتبطت بالمرابطة على خط المواجهة مع الأمريكيين في الأمم المتحدة منذ أواخر السبعينات، حيث عمل مساعدا ومساعداً أول للمندوب السوفييتي في الأمم المتحدة طوال الثمانينات، ثم مندوبا دائماً لروسيا في نفس المنظمة لمدة عشر سنوات حتى 2004.
ومن اللافت أنه قد تمت إعادة لافروف إلى "المركز" من عمله كنائب أول للمندوب السوفيتي الدائم في الأمم المتحدة في أواخر الثمانينات، في نفس العام (1988) الذي تمت فيه الإطاحة بالوزير المخضرم اندريه جروميكو عن "الوزارة"، بعد تسجيله مواقف نقدية من تنازلات فريق جورباتشوف في السياسة الخارجية.
ومن اللافت كذلك أن لافروف، صاحب "الخدمة الطويلة" والمهنة المستقرة حتى في بدايات حياته المهنية، عانى في تلك الفترة من عدم الاستقرار الوظيفي، وتفاقمت معاناته هذه خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وما تبعه من تداعيات وفوضى ولاءات، في حين أن إعادته إلى نيويورك مندوباً دائماً لروسيا في الأمم المتحدة تزامنت مع بروز صراع تيارات في "الخارجية الروسية". وقيل إن ذلك جاء برغبة مباشرة من وزير خارجية يلتسن، ذي الميول الغربية اندريه كوزيرف، بهدف إبعاده عن الوزارة في سياق التخلص من مراكز القوى المناوئة.
لقد كان اللقب الغربي لجروميكو "السيد نييت"، ويشكك جروميكو بمصداقية هذا اللقب، فيقول أنه سمع من الغرب "نو" أكثر مما سمعوا منه الـ"نييت"، مشيراً إلى انهم كانوا يقترحون شيئاً يرفضه، ولكنه بالمقابل كان يقترح الكثير من المقاربات التي يرفضونها؛ أما لافروف فرغم أصوله الأرمنية المباشرة، فقد تم تكريسه كـ"أول" وزير خارجية روسي عنيد، تماما كما تم تكريس بوتين كـ"أول" رئيس روسي حديدي..!

لافروف.. وجه معذب


بدأ لافروف يظهر على نطاق واسع في الإعلام حينما تم تعيينه أواسط التسعينات مندوباً دائماً في الأمم المتحدة لروسيا - نظام يلتسن الذي كان سلم كل أوراقه للأمريكان؛ وكان متوقعاً من المندوب الروسي أن يكون صدى لهذا النظام، ونسخة أكثر ليونه من وزير خارجيته، حينها، أندريه كوزيروف.
لم يكن الأمريكيون يتخيلون أن يكون المندوب الروسي الجديد في الأمم المتحدة، الذي أريد له أن يكون مجرد "منسق" يضبط الأداء الروسي في الأمم المتحدة على إيقاع "الزفة" الأمريكية، "متعنتاً" لا يتجنب المواجهة، وعنيداً لا يحاول تحاشي الخصومة.
حقق لافروف في ذلك الوقت شهرة في أروقة الأمم المتحدة، وفي الإعلام الروسي والغربي؛ وبدا أداءه يعطي مؤشرات على بوادر تغيير في السياسة الخارجية الروسية. ولكن هذه المؤشرات كانت تبدو زائفة في لحظة الحسم، إذ كان الموقف الروسي الذي يعبر عنه الرجل يتلاشى فجأة ويتبخر في الهواء، ليتلو الرجل نفسه في مجلس الأمن كلمة روسيا بلغة وموقف نظام يلتسن التنازلي المعهود.
وفي الحقيقة، فإن لافروف، "المرسال" الروسي الذي كان يفترض أن ينسق السياسة الخارجية الروسية مع الحكومة الأمريكية، سلك سلوكاً استقلالياً اضطر معه أركان المعادلة إلى قلبها؛ فبدلاً من أن يكون هو ضابط الارتباط في الأمم المتحدة بين حكومته والإرادة الأمريكية، تحولت حكومته إلى "مرسال" بينه وبين الأمريكيين، تنسق خطواته مع واشنطن، وتكبح جماحه وتعيده إلى السراط الأمريكي كلما شطّ وابتعد. وهذا الأمر بالذات كان يقف خلف تلك الظاهرة التي لاحظها العالم حول المواقف الروسية في القضايا الدولية، منذ أواسط التسعينات وحتى العام 2004، التي كانت تبدأ متشددة، ثم تنهار دفعة واحدة!
كانت متشددة، طالما أن المندوب الدائم يتحدث، وتنهار حينما تتدخل حكومته الخائرة، وتملي عليه موقفها، وتلزمه بالتعبير عنه!
وهنا، لا بد أن نسترجع بعض الحقائق غير المشهورة عن لافروف أثناء خدمته الأخيرة في الأمم المتحدة؛ لقد أعاد إلى البعثة الروسية دورها ومكانتها في السياسة الخارجية الروسية، فهذه البعثة التي تحولت منذ العام 1988 إلى مجرد هيئة تمثيلية، عادت مع لافروف إلى وضعها التقليدي كـ"وزارة الخارجية المصغرة"، كما كانت في العهد السوفييتي.
تفرد لافروف، وفق ما يذكر زملائه بالبعثة، باستقلاليته؛ كان يتخذ المواقف ويبلغ موسكو بها، ولم يكن ينتظر تعليمات من حكومته. وهذا قاد بالطبع إلى اهتمام غير عادي من وزارة الخارجية لمتابعته، أولاً بأول، وموافاته بطلباتها وتعليماتها، لقطع الطريق على ارتجاله ومبادراته. والأهم من ذلك أنه لم يُمنح أبداً تفويضاً باستخدام "الفيتو" إلى أن ختم ولايته، فكان المندوب السوفيتي والروسي الوحيد الذي أحجمت "الخارجية" عن منحه هذا التفويض، وحرمته من التسلح به.
وبهذا، كان الرجل الذي ينافح عن مصالح الدولة الروسية في "مجلس الأمن"، ويجابه زملائه من ممثلي الدول الغربية بعناد وشراسة، مكشوف الظهر، وكان يضطر مرة بعد مرة لتجرع الهزيمة أمامهم بمرارة ووجه معذب، لا لأنه كان يخسر المواجهة معهم، بل لأن هؤلاء يلجأون للاستنجاد بحكومته، فتضع له حداً..!
لقد مثل لافروف، الذي كان قد تم إرساله للأمم المتحدة نفياً له عن "الخارجية"، حتى ذلك الحين جدار آيلاً للسقوط، إذ أنه ذهب بعيداً في منافسة "المركز" في تقديم المقاربات، وسجل "خطيئة" يصعب على "ديمقراطيي" روسيا الجدد غفرانها وتمثلت بمحاولة استعادة أساليب العمل السوفييتي في البعثة، كما خبرها طوال الثمانينات، وحاول أن يجعل من "وزارة الخارجية المصغرة" التي كان يقودها المرجع النهائي في كل ما يصل على الأمم المتحدة ومجلس الأمن من قضايا دولية، تاركاً لموسكو إدارة العلاقات الدبلوماسية.
وتدخل الزمن لصالح لافروف؛ فقد أجبر فلاديمير بوتين الرئيس الروسي في ذلك الوقت بوريس يلتسن على الاستقالة، وتسلم الرئاسة مكانه عشية العام 2000. وفي هذا العام، جاء الرئيس الروسي الجديد إلى نيويورك لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة (اجتماعات الألفية الثالثة)، وهناك لحظ لافروف، وأثار انتباهه أنه كان حاضراً بالمقاربات الجديدة المختلفة حول كل القضايا المطروحة، ولم يكن يتوه في تفاصيل العلاقات مع الولايات المتحدة ومفارقاتها. وكان يقدم بسهولة متناهية للرئيس الجديد المقاربات الناجعة لإدارة جداول الأعمال في كل الاجتماعات التي كان يعقدها مع رؤساء الدول. وعملياً، فقد كان فرض لافروف، نفسه بديلاً لفريق وزارة الخارجية المرافق لبوتين في إدارة تلك الجولة من العمل الدبلوماسي والسياسي.
ومنذ لحظتها، لم يعد لافروف جداراً آيلاً للسقوط، إذ عاد بوتين إلى موسكو مقتنعاً أن مندوبه الدائم في الأمم المتحدة متمكن من عمله جيداً، ويعرف خصومه بشكل كاف، ويتمتع بالإرادة والخبرة لإدارة علاقاته معهم؛ ورغم ذلك، فإن انشغال الرئيس الروسي الجديد بشؤونه الداخلية، لم تشجعه على منح لافروف التفويض الذي يتناسب مع الإعجاب الذي أثاره.
بقي لافروف محكوماً بعلاقته التقليدية مع "الوزارة" إلى العام 2004، حينما طلبه بوتين لوزارة الخارجية؛ وأثارت موافقته على التعيين حينها الاستغراب في الأوساط السياسية في موسكو، فقيل أنه تم ترويضه أخيراً، وقبل أن يكون وزيراً لا يمون على شيء، فالسياسة الخارجية كانت ترسمها عدة هيئات خارج الوزارة، منها هيئة الشؤون الخارجية التابعة لمكتب الرئيس، وأخرى تابعة لمجلس الأمن الروسي.
بعد نحو شهرين من التعيين، تلاشى الاستغراب وانتهت أسباب العجب، فقد أصدر بوتين مرسوماً يقضي بتفويض وزارة الخارجية حصراً بوضع الاستراتيجيات الخاصة بالسياسة الخارجية الروسية؛ وبهذا فتح المجال أمام تغيير في السياسة الخارجية، بل وبخطاب بوتين نفسه!
كل ذلك، وبقي لافروف محتفظاً بوجهه المعذب!

لافروف.. مزاج خرتشوفي


الناس الذين يذكرون حذاء خرتشوف في الأمم المتحدة وتطربهم سيرته، لا بد تمتعهم معرفة بعض الحيثيات عن وزير الخارجية الروسي الحالي سيرغي لافروف، وتحرك فيهم بعض "الطرب".
وتأخذ هذه الحيثيات، التي تعكس مزاجاً خرتشوفياً لا يخلو من فظاظة، أهمية خاصة حينما نعلم أنها وجدت طريقها للتطور من مجرد صفات شخصية لدبلوماسي إلى لمسة شخصية في سياسة خارجية للدولة؛ لذا من المثير متابعة تجليات هذا المزاج في بداياته ونهاياته، وملاحظتها ابتداء في حوادث بسيطة..
في الحادثة الأولى، وتعود إلى وقت من تسعينات القرن الماضي كان فيه لافروف يشغل منصب المندوب الدائم لروسيا في الأمم المتحدة، حيث شن في خطاب له في المنظمة الدولية هجوماً حاداً، خرج عن الأطر الدبلوماسية وبدا مفاجئاً، ضد البلد المضيف (الولايات المتحدة)، لتجاوزاتها في التعامل مع البعثات الدبلوماسية وقيامها بتحديد حركة أعضاء البعثة الروسية وأسرهم في الولايات المتحدة.
لم يحتمل الأمريكيين الواقعة، لا سيما أنها جاءتهم من مندوب روسيا يلتسن الذي كان طوع اليد ويغرق في "العسل" الأمريكي، فحاولوا معاقبته، وهكذا فوجيء لافروف في يوم تالٍ بإحدى سيارات شرطة نيويورك تتوقف على نحو لصيق بسيارته، بحيث منعته من التحرك. وحينما حاول استعجال الشرطي وحثه على الابتعاد عن طريقه، أقدم الشرطي على سحب مفاتيح سيارة الدبلوماسي الروسي من مكانها، على نحو استفزازي، قدر الأخير أنه مقصود.
أثارت الحادثة، كما هو متوقع، غضب لافروف الشديد، فأثار الأمر على أوسع نطاق، وأصر على أن تقدم الحكومة الأمريكية اعتذاراً رسمياً لروسيا. ولم يثنه عن ذلك أن حكومته لم تشجعه وكانت ميالة للتعامل مع الأمر باعتباره مجرد سوء تصرف من "شرطي"، فأصر على ما أراد إلى أن تحقق له؛ وكان من اللافت أنه حصل على ذلك الاعتذار بعناده الشخصي، لا بقوة حكومته.. بل دون مساندتها.
والحادثة الثانية، وهي تعود لهذه المرحلة ذاتها؛ فقد أصدر الأمين العام للأمم المتحدة، حينها، كوفي عنان مذكرة تقضي بمنع التدخين في مبنى الأمم المتحدة، بناء على قرار من عمدة نيويورك مايكل بلومبيرغ، الذي حظر التدخين في الأماكن العامة، وأرسل تعميماً للأمم المتحدة؛ فأثار الأمر سخط لافروف ورفض الامتثال للتعليمات، بينما راح يهزأ بالأمين العام علناً ويصفه بـ"المدير المأجور" لدى مايكل بلومبيرغ، وأصر على أن ليس من حق "المدير المأجور" ولا سيده إعطاء الأوامر لممثلي البعثات الدبلوماسية، وأنفرد حتى نهاية عمله في الأمم المتحدة بالتدخين بتحدٍ وبشكل علني.
في الحادثة الثالثة، لم يستخدم لافروف حذاءه مثلما فعل خرتشوف، ولكنه كان لجأ إلى طريقة لا تقل فظاظة في التعامل مع الغرب، وفق ما ذكرت الغارديان البريطانية، التي نشرت تفاصيل حديث هاتفي أجراه وزير الخارجية البريطاني ديفيد مليباند في العام 208 مع لافروف، ليحتج فيه على اجتياح روسيا لجورجيا؛ وحينما بدأ الوزير البريطاني يذكر زميله الروسي بضرورة احترام القوانين الدولية وما إلى ذلك من هذه اللهجة، جاءه الرد صاعقاً من لافروف، إذ انفجر في وجهه قبل أن ينهي المكالمة قائلاً: "من تحسب نفسك يا ابن القحبة لتتجرأ على إعطائي المحاضرات..!".
ولاحقاً، لم ينكر الوزير الروسي الحادثة، ولكنه قال ممازحاً أنه كان يريد وحسب إعطاء الزميل البريطاني فكرة عن المخزون الأخلاقي في لغة رئيس جورجيا ساكاشفيلي، الذي يدافع عنه!
أريد من كل هذا، ومن الإشارة إلى هذا المزاج الخرتشوفي، أن أعيد التذكير بالحادثة التي تعرض لها السفير الروسي في مطار الدوحة قبل نحو شهرين؛ فهي كما تشير كل الدلائل تأتي في سياق الرد على شخص ما في روسيا كان القطريون قد توجهوا إليه، قبيل الفيتو المزدوج، لعقد صفقة تسمح بتمرير القرار البريطاني الفرنسي لإدانة سوريا؛ فتلقوا رداً صاعقاً يعادل المبلغ المضاعف الذي تم عرضه.
والمعطيات التي تم تداولها حينها في الإعلام تشير إلى أن القطري الذي فعل ذلك هو أكثر سكان هذا البلد صفاقة على الإطلاق (وأنا بهذا أكون صرحت بهويته كاملة حتى الجد الخامس!)؛ وتشير حادثة السفير الروسي في مطار الدوحة بالمقابل إلى طبيعة وفظاظة الرد الذي تلقاه، ولن ينساه..
وعليه، فإن رأيتم سياسياً قطرياً فاقداً لأعصابه أو عقله، لا تلوموه. وكونوا على ثقة بأنه لا يلام، فقد لقي وواجه شيئاً يجعل من فقدان العقل والأعصاب شيئاً متوقعاً..!

الأحد، 18 ديسمبر 2011

للكارهين: روسيا.. روسيا!


واجهت روسيا مأزقاً شبيهاً بالمأزق السوري الحالي طوال عقد التسعينات كاملاً، وخرجت من رحمه قوية منيعة واستعادت مكانتها الدولية؛ وكان قد جرى، قبل ذلك، التهيئة لانهيار الاتحاد السوفيتي نفسه، بنوعية مماثلة من الأحداث (ناغورني كارباخ)، قبل أن تتواصل بعد ذلك مع روسيا في عهدها الجديد، في مناطق وبؤر أخرى منها.
وأهم ما يمكن الإشارة إليه في تلك الأحداث الروسية المريبة هو أن فلاديمير بوتين، رجل روسيا القوي اليوم، هو من وضع نهاية لها، وتكفل بإطفاء تلك البؤر، ومعالجتها.
 وعالجها بآخر العلاج: الكي بالنار..!
ولمزيد من الإزعاج لمن ينزعج، كان بوتين في حينها، في الموقف نفسه، الذي فيه الرئيس الأسد اليوم، مع فارق رئيس، هو: أنه لم يكن لديه حليفاً (يفهمه ويتفهم موقفه) اسمه فلاديمير بوتين!
فلاديمير بوتين، ولحسن الحظ، يترك للمؤلفة قلوبهم في السياسة متابعة "الجزيرة" و"العربية"، ولا يعتمد عليهما ليعرف حقيقة الوضع في سوريا وآفاقه المحتملة ومآلاته المتوقعة؛ فهو مدين بصعود نجمه السياسي لفهمه وخبرته وأدائه في التعامل مع الأحداث المشابهة في روسيا؛ وهو اليوم حينما ينظر إلى سوريا يرى بخبرته أمرين:
-        السلاح الذي يتحرك في سوريا لا يمكن أن يكون محلياً، باجتماعه وأهدافه وغاياته، وهو يمتلك بالضرورة امتداد خارجي (بالعربي: عميل)!
-        إن تقديم تنازل لحملة السلاح، السياسيين والميدانيين على حد سواء، لن يكون تنازلاً محلياً من الدولة (أو الحكومة) لفئة من شعبها، ولكنه تنازل للخارج، ويصرف سياسياً واستراتيجياً في بنوك الخارج!
وهنا، يأتي هذا التنازل على حساب روسيا، مثلما على حساب سوريا الوطن والدولة المستقلة المقاومة والممانعة، فلا يتخيل أحد أن بوتين يمكن أن يطالب سوريا (خصوصاً بقرار بمجلس الأمن) بأن تمنح حملة السلاح بوجه شعبها الفرصة لفرض ما يريدون وما يريد أسيادهم!
يدرك بوتين، كذلك، أن معالجة الأزمة شيء آخر غير إدارتها؛ فالإدارة تقتضي التعاطي الدبلوماسي، والمعالجة تفرض الحسم العسكري إلى جانب الإصلاحات الجادة، وهو يعرف أن الديمقراطية الغربية التي تتيح للولايات المتحدة شن حروب إبادة جماعية باسمها، لا تعيق حزباً أو جماعة أو فرداً من السيطرة على الدولة.. والمجتمع إن أراد!
الأمر الآخر: البعض يعتقد أن روسيا تتمنع وتفاوض على ثمن مالي؛ ويبدو أن لا علم لهؤلاء أن روسيا، اليوم، بعائداتها النفطية أغنى من الخليج الذي يسعون ليكونوا غلمانا له، وأن روسيا حققت نسبة نمو غير معهودة في الاقتصاديات الحديثة لا توازيها فيها إلا الصين، وأن بوتين الذي كان قد وجه صفعة لصندوق النقد الدولي في أواخر التسعينات لدى استلامه رئاسة الوزراء، برفضه استلام الـ9 مليار دولار الأخيرة التي كان يحتجزها الصندوق من قرض قيمته 21 مليار دولار، وكان يبتز بها حكومات يلتسن العميلة للغرب على مدار عامين، هو نفسه اليوم الذي يعرض على الأوروبيين استعداده لإنقاذهم من أزمتهم المالية، وإنقاذ "اليورو"، وبكلماته: "خصوصاً من خلال صندوق النقد الدولي"، الذي كان يرى في قروضه عقود تملك الدائن للمدين، وليست مجرد عقود دين.
وعود على بدء: بوتين مدين بصعود نجمه السياسي لمقاومته الشرسة والدموية الناجحة للأوليغارشية في وطنه والنفوذ الغربي والقضاء على الأزمات الدموية في روسيا التي كان يغذيها الخارج؛ وروسيا مدينة له بوقف انحدارها وتمكينها من استئناف وجودها كقوة عظمى..
واليوم يصمد الأسد، ويقدم الفهم الواضح والدقيق لما يجري، و"يدير" الأزمة ويُضحك العالم على حمد وجامعته العربية، و"يعالج" الأزمة بتوفيق يُفقد حمد، الفاقد صوابه، قدرته أن يفقد صوابه؛ فأي مكانة سيحتلها هذا الرجل، وأي مكانة يصنعها لسوريا، وكم عدد صغار السياسة ومؤلفتها الذين سيفقدون صوابهم حينما تدلهم عقولهم وضمائرهم ذاتها، وليس أي أحد آخر، على موقعهم في الدنيا كعملاء ومرتجفة قلوبهم وخونة من أرخص الأنواع!

روسيا من جديد

تترأس روسيا هذا الشهر (كانون الأول) مجلس الأمن الدولي، وتنتهي رئاستها بنهايته، وبالرغم من أنها عضو دائم فيه، إلا أن ذلك يتوافق مع تغييرات على عضوية المجلس من قائمة الدول غير دائمة العضوية.
وتخرج في نهاية هذا الشهر كل من "البوسنة والهرسك" والبرازيل (وهذه دولة عضو في مجموعة بريكس) والغابون ولبنان ونيجيريا من عضوية مجلس الأمن الدولي، لتحل محلها في بداية الشهر المقبل (كانون الثاني) كل من: أذربيجان وغواتيمالا والمغرب وباكستان وتوغو.
وعلى الأغلب ستكون رئاسة المجلس لأذربيجان، حيث يتناوب أعضاء مجلس الأمن رئاسة المجلس بحسب الترتيب الهجائي الانكليزي لأسمائهم، ويشغل كل رئيس منصبه لفترة شهر تقويمي.
وبالنسبة لمشروع القرار الروسي "الجديد"، لا بد من الإشارة إلى الملاحظات الأولية التالية: 
  • مشروع القرار الروسي "الجديد" هو نفسه مشروع القرار الذي سبق وقدمته روسيا والصين، ولم يحظ بقبول الغرب. 
  • كانت روسيا من موقع رئاستها لمجلس الأمن قد رفعت مناقشة الملف السوري عن جدول أعمال المجلس لهذا الشهر (كانون الأول). 
  • قدمت روسيا مشروع القرار على نحو مفاجئ (وهذا ليس معتاداً في مجلس الأمن) في فترة تسبق أعياد الميلاد التي تتواصل حتى منتصف الشهر المقبل.
  • توقيت تقديم مشروع القرار الروسي يستبق كذلك التغيير الذي يطرأ في عضوية المجلس (بمعنى أنها حددت مسبقاً الجزء المتعلق بسوريا من أعماله).
  • تقديم مشروع القرار يقطع على أية دولة أخرى تقديم مشروع قرار في نفس الملف، لهذا يرى البعض أن مشروع القرار هو تكتيك وقائي، يغلق الباب أمام تقديم قرار من أية جهة أخرى.
وللتذكير، فإن روسيا تشدد لغاية الساعة على رفضها القاطع لأي قرار يتضمن واحدة من ثلاثة نقاط أساسية، وهي: إدانة سوريا، التدخل الدولي، والعقوبات الاقتصادية.
قطع الطريق بات مطلوباً بالنسبة للروس لتأمين المبادرة العربية ضد التجيير الدولي، وللتأكيد على ضرورة أن يتم تعديلها بما لا يجتاز  الممنوعات الروسية الثلاثة: (الإدانة، التدويل، العقوبات).
وهذا كذلك يغلق باب "المجلس" أمام حمد ومعسكره الغربي، ويساعد الحكومة السورية في مقارعتها للجنة حمد الوزارية "العربية" لإقرار التعديلات التي تطلبها على بروتوكول المراقبين.