الأربعاء، 18 يناير 2012

بريماكوف.. وطنية إنكشارية

تجاوز يفغيني بريماكوف الثمانين عاماً من عمره، "ومن يعيش ثمانين حولاً، لا أب لك يسأم"؛ وبمفهوم ما، لا أب لبريماكوف. غير أن بريماكوف، في وجدانه وقرارة نفسه، لا يفكر بالرجل الذي ارتبط بأمه، ولم يره أبداً. ولكنه يفكر بأبيه الذي يعيش في كنفه إلى اليوم: الدولة!
لم يشكل غياب الأب، من حيث المبدأ، مشكلة عند بريماكوف المولود في أواخر العشرينات من العهد السوفيتي، المجتمع الذي لا يمثل فيه الإنجاب خارج الزواج مشكلة، وليست له عواقب خاصة، لا سيما وأنه يمكنه أن ينتسب لعائلة والدته، بينما الدولة تتكفل بواجبات الأبوة المادية، أما الواجبات العاطفية فلا يمكنها ان تكون غائبة تماماً في دولة ومجتمع يقدسان الأطفال، خصوصاً من لديهم "احتمالات" حرمان.
وبالمقابل، فإن تجاهل تأثير غياب الأب تماماً، وكونه مجهولاً، لا يبدو تقديراً حكيماً؛ فالرغبة بالانتساب إلى أب، والشعور بوجوده بالقرب، عوضها بريماكوف مبكراً بمشاعر حميمية تجاه ذلك الشيء الغامض، الذي كانت تتوجه إليه الوالدة لحل ما يعترضها من مشكلات حياتية. ولهذا لم يكن غريباً أن تقع الدولة من نفسه موقع الأب.
في مرحلة متأخرة من طفولته، تحديداً في السنوات ما قبل الأخيرة من المدرسة، أخذت الفتى بريماكوف ميول جياشة غامضة نحو الانخراط في خدمة الدولة، من خلال رغبة عارمة في الانتساب لمدرسة عسكرية تستقبل الأطفال بعمر المراهقة، وانتسب بالفعل إلى الكلية البحرية في باكو، ولم تدفعه سنتان عايش خلالهما ألونا من العذاب لتركها؛ غير أن الأطباء اكتشفوا مرضه (الربو) الذي يجعل منه غير مناسب لهذا المجال، فتم فصله من الكلية، ليعود إلى تبليسي ليواصل دراسته الثانوية.
وستظل تلك الميول الغامضة، التي قادت بريماكوف إلى محاولة خدمة الدولة والعيش في فنائها، من خلال الإنخراط في مدرسة ذات طابع انكشاري، حاضرة في محطات سيرة حياة الرجل، الذي تتعدد وتتنوع الصفات والألقاب والتخصصات التي تستخدم في الإشارة إليه. ولكنه سيحول لاحقاً وسائله في تحقيق حاجته لـ"الإنتماء" من ذلك الطابع الانكشاري إلى نوع من الولاء الهادئ، ولكن المستقر والثابت.
وعليه، سيكون من الملازم لصفات بريماكوف الانسانية تقدمه بوتيرة مستقرة، لا بل ومتصاعدة، في وقت تتعثر فيه الطريق بمن هم بموهبته وقدراته وموازاته، وسيكون دائماً بمنجى عن آثار التحولات التي تمرّ بمجتمعه وتطيح بمن هم أشد منه مكنة وقوة. ويبقى رجلاً مطلوباً رغم انهيار الأنظمة وتغيرها، ويعمل مع الجميع ويصادقهم دون أن يذمه أحد من قادة المراحل. بل وربما يخصونه بمشاعر ودّ لا تحتملها التجربة، ولا يتوقع أحد أن يحملها سياسي مهزوم لسياسي باق في الميدان.
وإذا أخذنا مجاز زهير بن أبي سلمى وتمعنا في قوله "لا أب لك" ومقتضياته، لأدركنا أنه لا يعني الحالة الاجتماعية بل مقتضياتها الأخلاقية المفترضة في ثقافتنا المحلية، ولدهشنا أن الأمر لا يختلف كثيراً مع رجل من زمن آخر تماماً، ومن مجتمع مختلف كلياً، ومن ثقافة مناقضة بالمطلق، بحيث أضحى يؤكد مقولته.
لقد عمل الرجل مع الإدارات السوفيتية التي عاصرها جميعاً، دون أن يترنح مع من انهار أي منها، وواصل حياته المهنية بسلام ودون أي مطبات؛ وأطاحت عملية تغيير النظام بالدولة السوفييتة، ولم تطح به. عمل مع جورباتشوف ولم يذمه. ثم عمل مع يلتسن. ثم بوتين، ولا يزال، دون أن يفقد اطلالته من شرفة السلطة.
لقد بنى بريماكوف مجده في بلاده والعالم، على انه صديق زعماء من مثل صدام حسين وغيره، ولكنه لم ينبس ولم يهتز ولم يبد، ولو حتى رياءً مثل بوش، أي اشارة احتجاج على الطريقة الشنيعة التي تم إعدام صديقه العراقي بها؛ ولم يصدر عنه لغاية اللحظة أية إشارة اهتمام بما يتعرض صديق عراقي آخر له من حيف، رغم أنه بنى أمجاداً وسمعة دولية بما أشاعه هو عن صداقة جمعته بطارق عزيز. 

وما يجعل الأمر اكثر فداحة أخلاقياً، أن بريماكوف، الذي هو أكثر الساسة الروس نفوذاً في الغرب منذ بدايات الثمانينات، ويؤخذ على محمل الجد أكثر من جورباتشوف بمئات المرات، وهو الأقدر في العالم أجمع على تزعم حملة تضامن تمنح طارق عزيز وفاة هادئة بين أفراد أسرته، ولكنه لا يفعل، ولن يفعل!
لقد كانت أهم مواهب بريماكوف، وأسوأ نقطة ضعف اتصف بها، هي الرغبة في القرب من أهل السلطة. وهذا شيء فهمه أقرانه، وتلمسه محتاجوه، ورغب فيه مستغلوه. فقد كان من المريح للأجهزة السوفيتية استخدام موهبته في التقرب من القادة والزعماء، الذين لا يرغبون في علاقة رسمية معهم، باستخدام شخصه الذي يسعى بلا صفة معلنة؛ وكان الراغبين في ايصال رسائل للقيادة السوفيتية يرتاحون لمقدماته التي تعطي ايحاءً بأن المسافات قريبة بينهم وبين القطب الأحمر، في حين أن مستغليه أدركوا نقطة ضعفه، وأمطروه بالتسهيلات، وجروه إلى محادثات دورية، يقصد منها تطويع العقل.
ومن أفدح حالات الاستغلال، التي عاشها بريماكوف، اتصالات اسرائيلية جعلته يتوهم بأنه "سيأتي بالذيب من ذيله"، وسهرات ليلية طويلة في مكتب الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، الذي كان يؤكد له أنه "يهتم شخصياً" بحصوله على ما يحتاج من مراجع من "مكتبة الأسد العامة"!
ولم يكن بريماكوف يهتم، بدوره، أن كل ما كان يحصل عليه لأبحاثه هو شيء متاح للعامة، طالما ان ذلك كان يتيح له بالمقابل أن يكون قناة مفتوحة مع سيد الشام، وبشكل غير رسمي؛ وهذا شيء كان يسجل له في موسكو بميزان حسناته الشخصية، ويطرب مشغليه في وسط العاصمة الروسية!
لقد احتاج بريماكوف أشياء كثيرة في حياته، واستطاع تعويضها. احتاج الأب وعوضه بالدولة، احتاج العائلة، فعوضها بعائلة والدته، احتاج النجاح فعوضه بالديمومة والثبات، ولكن شيئاً واحداً لم يستطع أن يعوضه: إنسان مخلص قريب ينبهه إلى فداحة ما يغفله بينما هو ينضم إلى كيسنجر في رئاسة لجنة تسعى لبناء سمعة إنسانية!

لقد كان بريماكوف، وما يزال إلى اليوم، الأقدر على رؤية التشققات في أي جدار، والأقدر على ملئها، بأفكاره، أو بدوره، أو حتى بسمعته. ولِمَ لا..؟ فهو سياسي انكشاري!

ليست هناك تعليقات: