الجمعة، 20 يناير 2012

بريماكوف.. وظيفة رسمية

ولد بريماكوف في العاصمة الأوكرانية كييف، ونشأ وترعرع في تبليسي عاصمة جورجيا، وقادته أول محاولة له لخدمة الدولة إلى باكو عاصمة أذربيجان؛ ومن المؤكد أنه لا ينتسب لأي من هذه المدن، على الأقل من ناحية الأم. 

لذا، فقد يخطر للمرء أن يجتهد بالتفكير برجل ارتبطت أهم أحداث حياته الأولى (وبالتالي: وعيه) بالعواصم، ويضع هذه الحقائق كإشارة قدرية لمستقبله الزاهر في عاصمة تلك العواصم!
على العموم، فالنسخة الميلودرامية لسيرة حياة بريماكوف المعتمدة منه شخصياً، تشدد على العاصمتين الأولين، وتغفل الثالثة.. ربما لأنها كانت محاولة أولى وفاشلة، غير ناجحة، طرقت باباً غير موفق، لمهنته المستقبلية التي برع بها، وجاءت له بالشهرة والنفوذ!
على أن "مهنة" بريماكوف نفسها ستظل شيئاً غامضاً، وزئبقاً لم يمسكه أحد مسك اليد أبداً، لا في الأمس ولا اليوم، لا الخصوم ولا الرفاق، لذا فإن أبرز الفاشلين في التعامل معه هم أولئك الذين وثقوا به وتعاملوا معه بالصفة التي قدم نفسه بها؛ أما من تجنبوا الفشل، فهم أولئك الذين تعاملوا معه بحدسهم، وهؤلاء بالذات حولوه لا شعورياً إلى صديق. ليس تقرباً منه، ولا تقريباً له، ولكن ليتعاملوا معه باسمه وصفته الشخصية، بدلاً من الصفات والمسميات، التي لم تكن تثير القناعة ولا الثقة، وكانت تبدو خادعة وخداعة!
هؤلاء بالذات أدركوا، تالياً، أن "يفغيني بريماكوف"، بدوره، ليس مجرد اسم يشير إلى شخص. بل مسمى يشير إلى وظيفة رسمية. أما الآخرون فينتبهون اليوم إلى هذه الحقيقة!
وعودة إلى النسخة الميلودرامية لسيرة حياة بريماكوف المعتمدة منه شخصياً؛ فهي تبدأ بـ"ولد في كيف، ومباشرة بعد انجابه عادت أمه به إلى عائلتها في تبليسي". وهذا السطر، الذي يتردد في كل النبذات والمطولات السيرية يردد صدى الرواية التي كتبها بريماكوف بنفسه، يكشف عن أمرين: الأول، أن الرجل الذي كان يمكنه أن يكون والد بريماكوف تنكر لأمه، ولم يعترف بحملها. الثاني، أن لدى الوالدة عائلة متضامنة ومحبة جعلتها تؤثر العودة إليها في محنتها، ولذا لن يكون غريباً أن العائلة ستكون دائماً الملاذ الآمن الذي سيحرص بريماكوف على تشييده وصيانته بدأب.
يمكننا أن نلحظ من ذلك أيضاً، أن الوالدة قطعت دراستها في كييف، وهنا ثمة تضحية لا يمكن جحدانها (هل يجب أن نتذكر نيكسون وأمه القديسة، هنا؟)، وأن اسم المولود يفغيني مكسيموفيتش بريماكوف يشير في مقطعه الأول إلى الوليد نفسه، وفي الثالث منه إلى عائلة الوالدة التي نسب إليها، أما المقطع الثاني، فيمكن أن يكون اسم والده، الذي تنكر له. أو ربما يكون اسماً افتراضياً يعجب الوالدة.، أو واقعياً يعجبها صاحبه.
لا يرد في كل كلام بريماكوف عن نفسه وحياته ووالدته ما يشير إلى أنه عرف يوماً، أو اهتم بمعرفة والده. والفكرة العامة التي يحتمي بها من الأسئلة التي يمكن تهاجم هذه "الحقيقة"، هي أنه كان وحيد أمه، لذا فقد كانت شديدة الحرص عليه. 

ودرجة الحرص التي يتحدث عنها بريماكوف تجعلنا نعتقد أن أمه الجريحة بالنكران لم تكن تتعايش مع فكرة أن هناك انسان ما يشاركها الحق في المولود. أما حرصه على التأكيد بأنه وحيد أمه، فيدفعنا للتيه بين فكرتين: إما أنه يقصد الدفاع عن طهارة أمه، التي اكتفت بنصيبها من الحياة بما نالته من جحدان، أو أنه يحاول الاشارة إلى فرادته الخاصة.
ولا يمكن أن لبريماكوف أن يؤكد على كلام، بالحرص على استخدام نفس المفردات، إلا إذا كان يريد أن يقول شيئاً محدداً، علماً أنه لا يأتمن المفردات، ويطمئن إلى تعدد المعنى، وتعدد المعنى (ولاحقاً: الصفات والمسميات والتخصصات) أمر يحتاج على معارف دقيقة ورثها من ثقافة أمه وتميزها!
بالمحصلة، فإن تعدد وتتنوع الصفات والألقاب والتخصصات التي تستخدم في الإشارة إلى بريماكوف، ليست سوى واحدة من تجليات وضعه الانساني، الذي يصدف أنه معني شخصياً به، ويحرص عليه، وهو كذلك قناعه الواقي، الذي قدم نفسه به إلى الآخرين، وكونه من طبقات من الصفات والمسميات، التي لا تثير القناعة ولا الثقة، وتبدو خادعة وخداعة!
وإذا كان الآخرون لا يستطيعون الوقوع على بريماكوف في تعدد طبقات الصفات والمسميات، فإن الرجل نفسه لا يستطيع أن يعرف نفسه مجرداً من كل ما يشوش على الآخرين، ويمنعهم من معرفته!
إن قراءة سيرة حياة بريماكوف بقلمه ومقارنتها بما كتب بأقلام الآخرين، تثير سؤالاً: من كتب بقلم من؟ وهل كتب بريماكوف عن نفسه بأقلام الآخرين، أم أن الاخرين استعاروا قلمه للكتابة عن سيرته؟
وهذه السير جميعها توضح دون قصد حاجة بريماكوف للعائلة، وتمر كلها دون قصد كذلك على فكرة انه استعاض لاحقاً عن عائلة والدته بعائلة زوجته. وقد لا يكون دون معنى أن نلفت الانتباه إلى أن بريماكوف اقترن بموسكو من خلال الانتقال للدراسة فيها، وكان قد تزوج قبل ذلك من حسنائه الجورجية لآورا خارادزيه، وعاش معها نحو أربع عقود قبل أن تموت في أواسط الثمانينات، ولم يكن من المتوقع أن يتزوج بعدها، لولا أن عضوية اللجنة المركزي للحزب الشيوعي السوفيتي جعلته يسترخي أكثر للإمتيازات "الدنيوية"، فتزوج من المراة التي تم تعينها طبيبة رسمية له. 

وهذا شيء شبيه ببريماكوف، الذي يمكن أن يتقبل برحابة صدر أن تعيّن له الدولة إبناً، أو حتى جداً..!
لا ينتهي الحديث عن بريماكوف هنا، فالذين يتعاملون معه باعتباره روسي مستعرب، لا يدركون أن في تفاصيل حياة الرجل أشياءً تجعل من هذا التوصيف ليس دقيقاً بالقدر الكافي؛ فهو بالتأكيد على كل ما سبق، لم ينشأ ويترعرع في تبليسي فقط، بل والتصق بالمكان الجيورجي، وتزوج إمرأة تنتسب له، وأجاد لغته، قبل أن يتعلم العربية في موسكو؛ وعليه، ربما كان على من يحاولون فهم بريماكوف البحث في "جيورجيته" تماماً كما يبحثون في "روسيته"!
وهذا يجب أن لا ينسينا أن الرجل صنع "مستقبله" الزاهر، أو بالأحرى.. وظيفته الرسمية، بالإعتماد على لغتين: الروسية والعربية. أما اللغة الثالثة، فهي لزوم حاجات بريماكوف المتعدد في محددات هويته الشخصية، لدرجة يصعب تصور أنه يمكن اختزالها في بطاقة واحدة!

ليست هناك تعليقات: