الجمعة، 25 مارس 2011

أفكار الحالة المتفجرة

انجلت الحالة العربية المتفجرة، بعد نحو أكثر من شهرين على اندلاعها، عن أشياء وأشياء؛ أولها أن الدول العربية ليست واحدة في طبيعة المشكلة، ولا في أساليب علاجها. والواضح كذلك أن التطورات الموضوعة برسم التحقق، لن تكون واحدة.

أثبتت الأحداث العربية، أول ما أثبتت أن ما من بلد بمنأى عن زحف الاحتجاجات الشعبية؛ والفارق الرئيس بين الأنظمة في ذلك هو أن الغضبة الجماهيرية في بعض البلدان العربية، وهي الحالة الأغلب، ترمي إلى تغيير شامل يطال نظام الحكم، بينما تهدف في بعضها القليل الآخر إلى المطالبة بالإصلاح.

والأمر المهم هنا، هو أن الدول الأخيرة هذه تستطيع، بالذات، أن توفر على نفسها وعلى شعوبها الكثير إذا ما استجابت بشكل شامل لمطالب الاصلاح، فهو عملياً بات ضرورة تاريخية، لا مفر منها، والاستجابة لها تخدم النظام والاستقرار، كما تخدم قضية التنمية بشكل جوهري، حيث أن الاستجابة من شأنها أن تدعم الأمن الاجتماعي، وتضخ دماء جديدة في عروق الإدارة وأجهزة الدولة.

وهذه الدول بالذات هي ذات الأنظمة الملكية؛ غير أن نظامان فقط (المغرب وسلطنة عمان) من مجموعة الأنظمة الملكية العربية أبديا استجابة للحظة التاريخية وتعاملا مع الموقف بروح المبادرة، رغم أن حجم الأحداث التي شهدها هذان البلدان، لم تكن بذلك الزخم الذي شهدته سواها من البلدان الملكية.

وقد رأينا هذه الاستجابة في سلطنة عمان التي حيدت، بشكل مبكر، الخيار الأمني، وتجنبت في العموم التعامل مع أبنائها المحتجين بلغة التجريم والإلغاء وكتم الأنفاس أو محاولة حجبهم عن الإعلام؛ واختارت اختارت إظهار روح الاستجابة ليس مع مطالبهم فقط وحصراً، بل مع حاجات القطاع الأوسع من المواطنين. وإذ يرى المتابعون أن العقل السياسي في السلطنة يجنح في العادة إلى التأني، دون تأخير. وبهذا فالخطوات الإصلاحية الواسعة والفورية التي اتخذتها السلطنة إلى الآن ليست كل شيء، بل هي بعض الجاهز في جعبتها، وفي الانتظار ما لا يمكن طبخه على عجل ولا على وقع الشعور بأزمة!

بالنسبة للبلدان، التي لم يسعفها الحظ بقيادات تتمتع بالكاريزما الايجابية وروح المبادرة، فإنها ستكون عرضة لهزات متفاقمة يصعب السيطرة عليها؛ الأمر الذي من شأنه ايصال الأمور إلى لحظة التورط بالتعامل العسكري مع الأحداث، وهو ما قد يجر إلى استحالة تسوية الأزمة، وانتقال الوضع فيها من حالة الدول التي تواجه مطالباً بالإصلاح إلى فئة الدول التي تواجه مطالباً بالتغيير الشامل للنظام. وهذا خيار باهظ كلفته عالية من الدماء والاستقرار، وهو كذلك طريق بلا عودة قد يفضي إلى حالة التدخل العسكري. ومن ناحية أخرى، أثبتت الأحداث الأخيرة، في مصر وليبيا واليمن، أن الجيوش ليست مغلقة الولاء، وكذلك جهاز الدولة. وثبت أن الولاء بحد ذاته ورقة استراتيجية لا يتردد من يملكها باستخدامها في اللحظة الحرجة. 

وبطبيعة الحال، فإن التعامل العسكري شيء والتدخل العسكري شيء آخر؛ فالأول يلجا فيه النظام إلى استخدام الأجهزة الأمنية والمسلحة الوطنية، أما الثاني فيعني تدخل قوات عسكرية غير محلية، سواء كان ذلك بطلب النظام نفسه، أو بالرغم من إرادته.

ومؤخراً، أوجد التدخل العسكري فئة جديدة في الحالة العربية المتفجرة، باتت ليبيا والبحرين مثالاً حياً عليها؛ وبالرغم من أن البلدان من فئتين مختلفتين بالأساس (في ليبيا هدفت الثورة لتغيير النظام، أما في البحرين فلم يكن سقف المطالب يتعدى الإصلاح). إلا أن الإختلاف في طبيعة التدخل العسكري (في الأولى دولي بموجب قرار مجلس الأمن، وفي الثانية خليجي بطلب بحريني)، لا يغير من آثاره شيئاً؛ إذ يخشى أن ينعكس ذلك خطراً على سيادة وربما استقلال الدولتين، في المدى المنظور، وقد يتسبب بإطالة أمد حالة عدم الاستقرار، ويفتح الباب أمام التدخلات الإقليمية والدولية.

حقيقة أخرى ملفتة: المناطق المتفجرة أكثر أمناً من الخامدة، فهي انتهت من مرحلة الاحتقان وتخلصت من الطاقة السلبية القاتلة. أما البلدان التي لم تنفجر فيها الأحداث، ولم تشهد زخماً يذكر، فالاحتقان فيها يتراكم، وباتت تشبه مرجلاً تعتمل داخله الطاقة السلبية المتفجرة، وتزداد عنفواناً، كلما نجحت القبضة الأمنية بتأجيل انفجارها. ومن المفروغ منه أن الانفجار حتمي، وبقوة بركانية.

وحقيقة أخرى: الأمر الذي اتضح في كل الحالات بلا استثناء، هو أن الطبقة السياسية من مسؤولي الدرجات العليا والمتنفذين السياسيين والمحظيين الاقتصاديين في الدول العربية، التي تكسبت بتطفلها على الأوطان والشعوب، قد استنفذت شعبيتها وأهليتها وقدراتها السياسية؛ لذا فإن الإجراء العقلاني البديهي والعاجل يتمثل باستبدالها فورا.

وبطبيعة الحال، فإن لا إصلاح بدون تغيير، وفي الوقت عينه يمثل التغيير فرصة ثمينة للتجديد. وعليه، فإن من الأجدى أن لا يقتصر الإصلاح على التغيير، ومن المفترض أن يقترن هذا الأخير بتجديد شباب الطبقة السياسية؛ وهنا، تجب الملاحظة أن قادة الحراك الاحتجاجي في العالم العربي أثبتوا أهليتهم السياسية وقدراتهم القيادية، إلى جانب أنهم بما توفر لديهم من روح المبادرة طرحوا أنفسهم مرشحين أقوياء مستوفيين لشروط المشاركة، وحجزوا مقاعدهم في مجلس أي طبقة سياسية بديلة. وبات وجودهم فيها  يمثل حاجة موضوعية. 

من الواضح أن الحالة الاحتجاجية الحالية لن تمثل طفرة عابرة، بل ستسفر عن نزوع جماهيري واسع ودائم نحو المشاركة السياسية، وتنتج حراكاً سياسياً موازياً في المجتمع للمسؤولية السياسية في أجهزة الدولة وعلى رأسها الحكومة؛ لذا فلا بد من وضع الحكومة تحت المحاسبة بالكامل. وفي حالة البلدان التي سقفها الإصلاح، هناك رموز وطنية لها مكانة خاصة، وتحظى بالإجماع الوطني، ومسافة مناسبة بينها وبين الحكومة، تتيح المجال أمام محاسبة الأخيرة، أمر ضروري ولا بد منه.

وبناء على ما سبق، لا بد إيجاد الأطر القابلة للتنظيم القانوني للمشاركة والحراك السياسي في المجتمع، لعقلنة حركة الشارع وتخليصها من طابعها العفوي غير المنضبط، وتحويلها إلى جهد منتج يسهم بفعالية في التنمية السياسية. وهذا باختصار يكون من خلال تأسيس أحزاب وحركات شعبية جديدة في البلدان ذات التجربة في هذا المجال، ودخول هذا المضمار في البلدان التي لم تعرف مشاركة سياسية على هذا المستوى. ولا يقل أهمية عن ذلك، تحرير البرلمانات من سيطرة الطبقة السياسية المتنفذة ومن الطارئين على السياسة والعمل العام في المناطق والأطراف من وجهاء عديمي التمثيل.

وفي أسفل القائمة، هناك الإعلام.. لقد ثبت أن الإعلام المترهل لا يحمي أحداً، والاعلام الممسوك لم يعد قادراً على أداء دور أمني فعال، بل أضحى هو نفسه واحداً من أسباب الاحتقان والأزمة؛ ولكن الإعلام الحيوي والحر قادر على حماية المجتمع من تبعات الاحتقان.


ليست هناك تعليقات: