دمشق بالعين المجردة

هنا دمشق.. هـذا مـا رأيتـه
(انطباعات مشارك بالوفد التضامني مع الشقيقة سوريا)
ضـرار البسـتنجي
arabi.dirar@hotmail.com
حين اجتازت الحافلة بوابة الحدود الأردنية السورية باتجاه دمشق كانت مخيلتي تزدحم بآلاف المشاهد التي تكونت من خلال متابعة وسائل الإعلام المختلفة وروايات "الشهود العميان" على فضائيات التضليل من جهة، وبروايات الأصدقاء والأقارب هناك في سورية أو القادمين منها في الفترة الأخيرة من جهة أخرى.
روايتان متناقضتان، وصور متداخلة ظلت تتزاحم في مخيلتي، وكنت أدرك أن ما يروى عن واقع متدهور ليس صحيحاً على الإطلاق، كما كنت اعتقد أن ما ينقل لي من الجهة الأخرى قد يكون "مزوقاً" لتزيين واقع لا بد أن يكتنف السواد بعض ملامحه، لكن الأهم بالنسبة لي كان أن أقرأ الشارع السوري.. المواطنون.. حركة السير .. أجواء رمضان.. المحلات التجارية... أشياء كثيرة تمثل مقاييس هامة بالنسبة لي كوني أعرف سورية جيداً.. كيف لا، وأنا أتردد عليها منذ التحقت بجامعة تشرين في أواسط تسعينات من القرن الماضي.
كنت أدرك تماما انه وبمجرد ترجلي من الحافلة عند الوصول، وإلقاء نظرة عامة على ما حولي، سأكون قادرا على رسم تصور مبدئي عميق عن الواقع هناك، تكتمل معالمه بالتواصل المباشر مع الناس في الشارع، وبمراقبة سير الحياة هناك وزيارة الأماكن "الملتهبة" –كما تحب فضائيات التضليل ان تسميها.
لم اكترث كثيراً بتفاصيل الاستقبال وتصريحات المعنيين من الجانب السوري، فأنا أعرف الطابع الدبلوماسي الذي سيكتنفها كما أنني أدرك أصلاً أن النظام في سوريا متماسك وصلب في وجه ما يحاك له، ولم آخذ بعين الاعتبار -رغم الاهمية- ملامح الطريق السريع الرابط بين "الحدود" وقلب دمشق، والممتد بين قرى درعا وبساتينها، الذي لم ألمح عبر المرور فيه –أو في غيره- رجل أمن واحد (باستثناء رجال السير)، أو دبابة، أو إغلاق طريق، أو أي ملمح من ملامح حياة غير اعتيادية، خاصة وان مشهد أولئك الفلاحين الذين يقطفون ثمار ما زرعوا هو ذاته الذي كنت أتلذذ برؤيته كل صيف، ولم آخذ أزمة  السير الخانقة التي واجهتنا لمجرد دخول دمشق بعين الاعتبار كثيرا، فليس هذا –فقط- ما أبحث عنه.. فقد كنت ابحث عن حقيقة ما قد يكون أصاب بنية المجتمع السوري جراء ما مورس ويمارس عليه إعلامياً وجراء ما حصل –بغض النظر أكان بسيطاً أم عظيماً.
مساء وبعد أن افطر الصائمون منا تجولت قليلا وبعض الأصدقاء من المشاركين حول مقر إقامتنا في قلب الشام، قبل أن يحين موعد لقائنا مع بعض الأصدقاء السوريين الذين دعونا إلى سهرة رمضانية في ربوع دمشق المفعمة بالحيوية وخيم رمضان المكتظة، وبعد أن التقينا مررنا بصديق آخر صحفي أراد أن يطلعنا على ما قد يفيدنا في تكوين تصور اكتر وضوحا.
وبالفعل جلسنا في مكتبه نتحدث حول الأحداث وتداعياتها وجذورها الأصلية. كانت الآراء متوافقة مع مراعاة ما طرحه أصدقاؤنا السوريون من شهادات حية على ما مورس في بعض المدن أو القرى من -قبل المسلحين- مجازر وترويع وتحريض وإغلاق للطرقات وإجبار لأصحاب المحلات التجارية على إغلاق محلاتهم، وكيف أن كثيرا من المسيرات كانت تستمر لدقائق فقط للحصول على تسجيل مصور يرسل من خلال وسائل وأدوات غير مسبوقة التطور لقنوات الفتنة التي تتغنى ببثها طوال اليوم.
أحد أصدقائي روى لي بحدة وألم كم بذل من جهد لثني ابن شقيقته -المقيم في حمص- عما اسماه (الارتزاق)  الذي يمارسه بمشاركته في بعض أعمال الشغب والمظاهرات، وكان يتألم وهو يقول لي أن ابن شقيقته ذو الستة عشر عاما كان يجيبه (عم نطالع كم ليرة مناح) دلالة على ما يأخذه من ( اجر) لقاء دقائق معدودة يهتف فيها ضد النظام أو يخلع رخام الأرصفة لرميها على رجال الأمن (وكله بحسابه) والحساب على من؟!
الله اعلم..!
في مكتب الصديق الصحفي شاهدنا وسمعنا، وعبر الأثير مباشرة، ما يحاك في غرف المحادثة السوداء التي يتم فيها الترتيب لمعظم أعمال التخريب والقتل والتحريض الطائفي (تعليمات، وتدريب على صنع قنابل بأدوات بدائية وتحديد مواقع عناصر الأمن والأماكن الحساسة لمهاجمتها، واتصالات هاتفية مع مراكز حساسة في البلاد لبث الفتنة والتحريض وزعزعة الأمن.. مراكز أمنية، وزارات، دور افتاء.. وغيرها الكثير).
أشياء كثيرة كان أهمها صناعة الأخبار المفبركة، وتحضير شهود الزور للحديث على الفضائيات.
انهينا اللقاء وقد صعقنا لهول ما سمعنا ورأينا.. حرب حقيقية هدفها تدمير الدولة قبل النظام.. خلق الفتنة والتحريض عليها.. كان صديقي يصر على تسمية تلك الغرف بـ(مطبخ صناعة الثورة المزعومة).
انتهى بنا المطاف على طاولة السحور في بيت احد أصدقائنا بعد جولة في الشوارع العامرة المكتظة برواد الخيم الرمضانية وأماكن التنزه، وبعد أن تجولنا في أحد الأحياء التي نقلت إحدى الفضائيات العربية (الكبرى) عن (نشطاء) وجود مظاهرة فيه وإطلاق رصاص من قبل الأمن واعتقالات بالجملة.
تمشينا هناك ولم نر شيئا مما ذكر على الإطلاق، رغم أن الخبر عاجل!
كان الناس في الشوارع، والمحلات التجارية، مشرعة الأبواب، والسيارات تصطف في تركيبة غريبة تخلق أزمة طالما ضقنا بها قبل أن ندرك، هذه المرة بالذات، أن أزمة السير دليل صحة وعافية، وأنها على سوئها نعمة من نعم الله على البلاد الآمنة.
في اليوم التالي كان المشهد مشابها. لقاءات مع العامة هنا وهناك، واتصالات للاطمئنان على زملاء الدراسة.. روايات متطابقة وأخبار تتناول التخريب والقتل و(القناصة). وروت لي إحدى زميلات الدراسة، وهي تقيم في مدينة على الساحل – إن أحد (القناصة) وصل ميتا حين ألقى بنفسه عن بنايتهم ذات الطوابق الخمسة في محاولته الهرب، حين تمكن عناصر الجيش من دخول مدخلها للوصول له خوفا منهم.. وهو ما يطرح سؤالاً عن مرجعية هؤلاء القناصة!
إضافة لروايات عن المؤتمرين بأمر شيخ الفتنة العرعور، الذين يكبرون ويهللون ويطلقون الرصاص في الهواء حين يأمرهم بذلك، من مقر إقامته في السعودية وعبر قنوات الفتنة الطائفية.
قريب لي اقسم بان احد أنسبائه -وهو رجل أمن- يودع أبناءه قبل مغادرة المنزل لأنه قد لا يراهم ثانية، حيث لا يسمح له بحمل سلاح غير العصي حين يخرج لمرافقة مظاهرة أو حماية مرفق عام من بعض المظاهرات. أصدقاء في حماة تحدثوا عن نهب للمصارف ومخازن التموين الخاصة بالدولة -قبل تدخل الجيش-.. سلاح في كل مكان، وإغلاق للطرق، ووضع حواجز فيها..
والواقع في دير الزور لم يكن مختلفاً.. اقسم لي من أصدقهم أن الجيش لم يقصف، أو يطلق رصاصاً عشوائياً باتجاه أحد، ,بل دخل بناءً على طلب السكان، وكان يزيل آثار ما فعله المسلحون هنا وهناك.
تهديدات بالجملة طابعها هدر الدم، وإقامة الحد شاهدتها على ايميلات وهواتف بعض الإعلاميين والحزبيين المخولين بالحديث للإعلام.
كل هذا ولا زالت تصلنا الأخبار المتضاربة التي تنقلها وسائل الإعلام عن موقف دول الخليج، وعن زيارة أوغلو المرتقبة تارة، وعن المظاهرات وتدخل الجيش (لقتل الناس!!) تارة أخرى، لدرجة تجعلك تشعر أن الحديث عن بلد آخر غير الذي أنت فيه.
ورغم أنني مصر على نقل التصور من زاوية شعبية.. من شوارع دمشق، إلا أن التصريحات الرسمية، ولقاءات مسؤول هنا أو هناك، كانت تؤكد ما أدركه من حجم الهجمة من جهة ومن تماسك النظام وقدرته من جهة أخرى.
جولة أخرى من التواصل مع المواطنين في الشارع.. المعظم يسبح بحمد الجيش، والبعض يراه أقسى مما يجب، بينما يطالبه البعض بحزم أكبر وبتدخل أسرع. وقليلون لا يبالون، لكن العامل المشترك بين الجميع، هو الإيمان بأن الوطن يواجه مؤامرة، وأن المطلوب أن تعود الأمور لطبيعتها.. حقد، وغضب على التضليل الإعلامي، وعتب على الأشقاء العرب، وتمسك بقيم الوحدة والصمود.
عالم آخر ما نشاهده في شوارع الشام إذا ما قارنته بما يرسمه الإعلام (الحر) في أذهان الناس، خاصة في ظل التقصير الواضح للإعلام السوري الرسمي.
في ختام ما رأيت أدرك بأن ما أقوله لن يعجب الكثيرين، وربما يتهمني البعض بالتحيز. ولا أنكر أنني من الآن متحيز.. متحيز للحقيقة التي شاهدت وسمعت شخصياً في دمشق، والتي نقلها لي أصدقائي وأنسبائي في المحافظات الأخرى، الحساسة منها بالذات، حيث لم ينكر أحد أن البعض يهتفون بعد صلاة أو ذات مساء، هنا أو هناك؛ لكن كل من تواصلت معهم في حماة أو دير الزور أو اللاذقية أكدوا أن الأمور طبيعية إلى ابعد حد -وللعلم ليس بينهم من هو معني بتضليلي، أو نقل صورة مغايرة للواقع، ناهيك عن التطابق في كثير من الروايات في بعض التفاصيل الصغيرة..
ومن الآن، سأكون متحيزاً، أكثر من أي وقت مضى، لقناعتي بأن سورية تواجه مؤامرة كونية، عمادها الإعلام والتكنولوجيا ووقودها التضليل والعبث بمشاعر الناس وعقولهم.
وسأكون متحيزا لثقتي بهذا الشعب العظيم وقيادته واقسم بالله -ولست بوارد ذلك- أن خلاصة ما شهدت وأدركت – قيادة مرتاحة متماسكة، وشعب صامد ومدرك لما يحاك ضده، ومتمسك بقيم العروبة والمقاومة والصمود.
والمؤامرة، التي هي أقذر مما تخيلت، ستأخذ في طريقها –إذا ما مرت- كل قيمة وكائن ومكان!
هذه خلاصة ما شاهدت، بمنظوري كمواطن عادي، يبصر ويدرك ما حوله بعيداً عن أي انتماء، أو موقف مسبق، ودون الالتفات لما قد أكون سمعته،  من أي مسؤول أو جهة رسمية.
ويبقى أن أقول أن شعور الحميمية والأريحية الذي عشته خلال زيارتي هو ذاته الذي كان لازمني في كل المرات التي زرت فيها سورية العربية.. وما أكثرها.
ملاحظات لا بد من ذكرها:
·        لم يكن لزيارة الوفد، الذي ضم أكثر من مئة شخصية أردنية، أي برنامج مسبق أو لاحق، فلم يتدخل أحد في مكان إقامتنا أو أين نذهب أو مع من نتحدث..
·        دفع كل مشارك تكاليف نقله بالباص وإقامته في فندق الشام، باستثناء الراغبين بالإقامة في مكان آخر.. فكان لهم ذلك.
·        كوفد لم نذهب للقاء أي مسؤول سوري، وحتى وزير الإعلام حضر للقائنا في الفندق.
·        لم يتحدث احد من الجانب السوري بما يعني أننا ممنوعون من الذهاب إلى أي محافظة سورية، بل إن وزير الإعلام تمنى أن نذهب إلى حماة مع جولة الصحفيين في اليوم التالي، لكن وقتنا كان صعباً.
·        كل ما نقلته من مشاهدات عن سير الحياة هناك، ومن شهادات لمواطنين سوريين لدي شهود عليه.