السبت، 19 مارس 2011

تسع درجات على مقياس مبارك


الارتباك سيد موقف الحكومة الحالية؛ ليس لأي سبب، ولكن لأن أفق الإصلاح (مهمتها الأساسية) تم ربطه بمفرزات ونتائج ما يتمخض عنه الوضع في العالم العربي. 

هي، ببساطة، حكومة في غرفة الانتظار السياسي!

1
مشكلة الحكومة أنها تنتظر التوجيهات، التي لن تتوفر إلا بعد جلاء الوضع في ليبيا واليمن والبحرين ومصر وتونس وبقية بقاع العالم العربي؛ وبهذا فإن فرض الحظر على عبارة "هذي توجيهات من فوق"، يبقى حظراً جوياً ولا يلامس الواقع على الأرض!

وحتى جلاء الوضع في بؤر التوتر في العالم العربي، فإن سقف الإصلاح السياسي قد تحدد بقانوني انتخاب وأحزاب جديدين، ولتأكيد ذلك راحت الحكومة وبعض أصواتها في الإعلام يؤكدون (بعضهم بلغة مباركية وقذافية في آن!) أن الحديث عن الملكية الدستورية هو مخالفة للدستور، متعامين عن حقيقة أن هذا المطلب لا يعني إلا العودة لدستور 52، الذي جرى تعطيله بتعديلات غير دستورية!
 
وتناسوا أن الملكية نوعان: مطلقة يحكم فيها الملك بإرادته دون الاستناد إلى دستور؛ ودستورية.. فيها الملك مقيد بأحكام الدستور. وهذه تمثل القلة الباقية في العالم من أنظمة الحكم الملكية، التي قبلت بتقييد صلاحيات الملك بدستور، لكي لا تودع في ذمة التاريخ، ولتطيل عمرها.

وتناسوا كذلك: أن مجرد وجود الدستور في أي بلد يمثل عقداً اجتماعياً يقضي بتقييد الحكم ومنعه من الاستبداد في استخدام السلطة، ولدينا في الأردن دستور. وهو يقول في مادته الأولى "المملكة الأردنية الهاشمية دولة عربية مستقلة ذات سيادة ملكها لا يتجزأ ولا ينزل عن شيء منه، والشعب الأردني جزء من الأمة العربية ونظام الحكم فيها نيابي ملكي وراثي". وتجدر ملاحظة تقدم "نيابي" على ما تبعها.

وتناسوا أيضاً: أن الدستور هو القانون الأعلى والأسمى، وهو بذلك يتمتع بقدسية مدنية وأخلاقية، تجعل من غير الجائز إصدار أي قوانين مخالفة لنصوصه، وهو أعلى من الهيئات المشار إليها في متنه والمكلفة بممارسة الاختصاصات الواردة فيه.

وتناسوا في اندفاعتهم: أن هذا الدستور الذي هو من وضع ثاني ملوك الأردن يمثل الوثيقة الوحيدة التي يعتدّ بها لدى الحديث عن شرعية الحكم، ولا يدانيه في ذلك شيء، ولا يغني عنه الحديث المتكرر عن العقد الاجتماعي بين الأردنيين والهاشميين الذي لا يستطيع الأردنيين تقليبه بين أيديهم أو معرفة أساسه وبنوده. 

2
تناسوا كل ذلك، وناموا في عسل الفتاوي القادمة على جناح السرعة بحبر "آية الله الصحافة الأردنية"، الذي يكتب بدرجة ملل تبلغ تسعة بالعشرة على مقياس مبارك؛ ولكن قائمة المشاكل في الطريق لا تفتأ تذكرهم بما تناسوه:

المشكلة الأولى في القائمة تتمثل في أن وضع الإصلاح في تلك الحدود المتواضعة، التي تتحدث عنها الحكومة، لا تدرأ عن الأردن خطر الانفجاريات الشعبية الخارجة عن السياق والسيطرة؛ فقانوني الانتخابات والأحزاب الجديدين هما مطلبان ينتميان إلى مرحلة سابقة، ولن يكون تحقيقهما كافياً اليوم.

لم تستجب لهما الحكومات المتعاقبة، فأورثتهما مضاعفين لوريثتها الحالية، التي بدورها تعجز عن الارتقاء إلى مستوى الاستجابة البناءة؛ وعليه فإن طول عمرها لن يسفر عن شيء سوى ارتفاع سقف المطالب.

والمشكلة الثانية أن الوضع في ليبيا واليمن، لمن ينتظرون جلاءه، لا يبشر بخير؛ فقد أريقت الدماء، وأركان الحكم في هذه البلدان يواجهون خطر مواجهة المحاكمة الدولية، بتهم ارتكاب جرائم حرب. ويبدو أن لا مناص من تلبية مطالب الشعب التي كانت وما تزال ترتفع مع التأخر بتلبيتها. 

وكان الأحرى أن تفطن الحكومة إلى أنها هي من هو مناط به إثبات أن الأردن ليس تونس أو مصر، بتجنب الأخطاء القاتلة التي ارتكبها النظام في هذين البلدين، بالاستجابة وليس بالمماطلة. وها هي اليوم مطالبة بالإسراع في إثبات أن الأردن ليس ليبيا واليمن والبحرين.

والمشكلة الثالثة أن الحركة الاحتجاجية الأردنية الواسعة لم تأت كردة فعل للزلزال الذي اجتاح بلدان العالم العربي منطلقاً من تونس؛ ولكنها تشكل امتداداً لحركات متعددة ومتفرقة شهدناها على مدار العامين الفائتين، مثل: حركة عمال المياومة، وعمال الميناء، وحركة المعلمين.. وغيرها، وقد جاء الزلزال العربي ليحررها من تشتتها في جزر ومطالب فئوية متفرقة ويبلورها في عناوين رئيسية شاملة. وهي اليوم تمتلك قوة دفع ذاتية.

ويتبدى هنا، العجز الشامل الممل بكل فداحته، فحتى هذه الحركات الاحتجاجية بمطالبها الفئوية، لم تجد في الحكومة الجديدة ما يرتجى، ولم تجد منها إلا أداء بطيئاً ومملاً بمستوى يرصده "مقياس مبارك للملل".

إذا كان هناك في هذه الحكومة من يعتقد أن لديها مهلة، فعليه أن يغسل وجهه ليستيقظ، فعهد مهلة المائة يوم ولى، ولا يبدو أن الشارع يصبر تلك المدة.
 
وببساطة، فأنها حكومة لن تلبث أن تجد نفسها مقيمة في غرفة العجز السياسي!

3
وبعيداً عن التزمت الرسمي، يقول الواقع أن مطلب العودة لدستور 52 وما قد يلحق به من تفصيلات، ليس حاجة خاصة لفئة دون سواها، بل ضرورة تاريخية للدولة بكل أركانها؛ الشعب بكل أطيافه معارضة ومولاة، والحكم بكل مؤسساته وهيئاته؛ لأنه صالح لأن يكون أساسا وناظماً لإصلاح سياسي حقيقي، يحول الحركة الاحتجاجية إلى حراك اجتماعي يبعث الحيوية في جهاز الدولة السياسي بعدما ركد طويلاً في أحضان الفساد واستنساخ التوريث واحتكار المناصب العليا من قبل نخبة تفتقر إلى الحد المعقول من المسؤولية الوطنية.

وهو، على ذلك، الوثيقة الوحيدة التي يمكن أن يحكم بها الحاكمون فيلتزم بحكمهم المحكومون! 

هذا هو الوجه المسكوت عنه، والذي تتغافل عنه الرؤية الرسمية للإصلاح، التي تتعامل مع ما يجري في العالم العربي باعتباره تحدٍ أمني.. 

وفي الواقع، إن كان ما يجري اليوم في العالم العربي يمثل فرصة، فهي فرصة تاريخية بالفعل للدولة وللحريصين عليها، ولمن يرومون وطناً آمناً مستقراً بإجماع أبنائه، قادراً على التعاطي الايجابي مع آمالهم وطموحاتهم.

وإن كان ما يجري اليوم في العالم العربي يمثل فرصة، فهي فرصة تاريخية لإخراج الأردن من دهاليز القرن العشرين السوداء، والنجاة به من الأحابيل المظلمة.

وإن كان ما يجري اليوم في العالم العربي يمثل فرصة، فهي فرصة تاريخية لإجراء إصلاح، مستحق منذ وقت طويل، للنظام السياسي يهيئه للدخول في القرن الحادي والعشرين بالحد الضروري من الإجماع الوطني والاستعداد لدخول عصر التنمية التي تشمل الجميع، ولا تكون على حساب الوطن ووجوده.

ولا إصلاح حقيقي وفعال يخرج الدستور من مجاله الحيوي!

4
وبعيداً عن آراء الحكومة ورؤيتها حول الإصلاح، وأدائها الممل بمستوى تسعة درجات على مقياس مبارك، نذكر بأن الخارجين إلى الشارع ليسوا خارجين عن القانون، وليسوا خارجين على الدستور، بل يطالبون بتفعيل القوانين وصيانة الدستور.
 
ومن حيث المبدأ، ليس خروجاً عن الدستور المطالبة بتحريره من تعديلات غير دستورية؛ وليس خروجاً على الدستور أن يرتفع سقف المطالب إلى ما هو أعلى من ذلك؛ فهذا حق الشعوب أن تطالب وأن تسعى لتحقيق مطالبها. ولكنه الكفر بعينه أن نغامر بإيصال البلد إلى اللحظة المتفجرة، لأننا نحاول أن نقاوم تحديث النظام، محاولين إبقاءه على شاكلة مذمومة في الأدبيات السياسية الإنسانية، على الأقل منذ مطلع القرن العشرين!

ليست هناك تعليقات: