الأربعاء، 22 يونيو 2011

تذكير حول الثورة المضادة

في وقت مبكر من هذا العام، وبالتزامن مع الثورة التونسية، كتبت مقالاً بعنوان "ليست ثورة الياسمين"، رافضاً إطلاق هذا الاسم على الثورة التونسية، باعتبار أن مثل هذه التسميات، هي من سمات "الثورات المضادة"، التي شهدناها قبل ذلك في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
واليوم، تنجلي الأحداث السورية عن "ثورة مضادة" شاملة، تتجاوز في أهدافها النطاق السوري المحلي، لتطال كل الثورات العربية بلا استثناء؛ وتنقل قوى الشد العكسي الدولية والإقليمية من محاولة اختطاف الثورات المتحققة وكبح الأخرى، إلى إنتاج ثورة مضادة في نقطة حاسمة من الصراع العربي الإسرائيلي، الذي هو مركزي في تحديد هوية الأحداث العربية (ومنه الثورات).
وفي هذا السياق، يبدو لي أنه من المفيد إعادة طرح مقال "ليست ثورة الياسمين"، الذي كتب ونشر في الأيام الأولى من هذا العام، وسبق اندلاع الثورة المصرية. فهو على الأقل، يثبت أن الموقف من الأحداث السورية ووصفها بالثورة المضادة ليس مرتبط بانحياز من أي نوع للنظام السوري، بل هو مستند على معايير وتجارب عاشتها الشعوب، وشهدناها معها في عقد كامل من الزمن.
إن الاتفاق على أن ما يجري في سوريا هو "ثورة مضادة"، يجعل بمقدورنا أن ندرك ونستشرف المآلات المدمرة لهذه "الثورة"، والتي هي في الحالة السورية أشد وأكثر قتامة مما سبق وشهدنا من ثورات مضادة، ولا يمكن أن تقارن إلا بما حصل في العراق: حيث تحول القمع إلى عنف طائفي وحرب أهلية، والفساد تحول إلى نهب لثروات العراق ومقدراته، وتغيير النظام انتهى إلى تدمير للدولة بكل مؤسساتها، بل ونسف "الوطنية" العراقية نفسها وتفتيتها.
تالياً؛ أقترح مقال "ليست ثورة الياسمين" لإعادة القراءة، وفيه أصبت وأخطأت:
ليست "ثورة الياسمين"
وصف ما حدث في تونس بـ"ثورة الياسمين" هو مغالطة كبيرة؛ ذلك لأن هذا الاسم يضم ثورة تونس إلى قائمة "الثورات الملونة"، التي حدثت خلال العقد الماضي، ويجمعها بـ"الثورة الخضراء" الفاشلة في إيران، ويضعها في سياق واحد معها كلها، ومع "ثورة الأرز" في لبنان!
وأهمية ثورة تونس تكمن في أنها ليست "ثورة ملونة"!
1
وفي الحقيقة، لا وجه للمقارنة بينها وبين "الثورات الملونة"؛ فقد إنطلقت الثورة التونسية من الشارع، بحركة فردية عفوية دون تحريك من الخارج (بل بالرغم من إرادته) وبدون وصاية داخلية من منظمات المجتمع المدني المخترقة، أو حتى من الأحزاب.
في المقابل، فإن "الثورات الملونة" التي شهدناها خلال العقد الماضي، كانت تقوم بتحريك من الخارج عبر شبكة كثيفة من منظمات المجتمع المدني التي تم إيجادها برعاية أمريكية وغربية.
من جهة أخرى، حظيت "الثورات الملونة"، عموماً، بعمليات دعم وإسناد من دور استخباراتي وجهد ارتزاقي اسرائيلي، إلى جانب هجمات دبلوماسية وحملات سياسية وإعلامية غربية ضارية للتقديم لها ومؤازرتها؛ بينما في الحالة التونسية نلاحظ أن العالم صمت طوال ثلاثة أسابيع عن دماء التونسيين ولم يلتفت لغضبتهم إلا حينما أتت أوكلها. أما الجهد الارتزاقي الاسرائيلي فقد جاء ضد الثورة وليس معها، ومثّل محاولة لاختطافها وتلوينها وتحويلها إلى حركة محدودة لا تخرج السلطة من يد دوائر الحزب الحاكم.
وخلافاً للحالة التونسية العفوية تماماً، فقد حظيت "الثورات الملونة" بقيادات ورموز سياسية قائدة، هي في أغلبها جزء من النظام السياسي القائم نفسه؛ وبمعنى من المعاني جاءت هذه "الثورات" تعبيراً عن الانقسام والصدع في النظام القائم؛ ومثلت مجرد أداة من أدوات إدارة الصراع السياسي في هرم السلطة، باستخدام الشارع والاستقواء به.
وتعمل "الثورات الملونة"، بشكل متكرر، على إيجاد شرعية شعبية تستند إلى أغلبية متظاهرين ومحتجين في الشارع للالتفاف على حقيقة غياب الشرعية الديمقراطية المستندة إلى أغلبية شعبية حقيقية مفقودة، وتحويل الشرعية إلى نتيجة يحسمها سباق مظاهرات؛ وهذا يذكر بالحساسية المفرطة التي كان يبديها زعماء "ثورة الأرز" بلبنان تجاه أعداد المتظاهرين المؤيدين والمعارضين، وإصرارهم على تنظيم مظاهرات أكبر عدداً من خصومهم، وسعيهم الدؤوب لتحويل الجدل حول الشرعية (في العام 2005) إلى سباق مظاهرات.
وفي حالة تونس الوضع مختلف تماماً؛ فلا وجود لكل هذه المعادلات!
2
من المعتاد أن ترفع "الثورات الملونة" شعارات الحرية والديمقراطية، ولا يعكس ذلك بالضرورة جوهرها؛ فأغلبها تبدأ مسيرتها الحقيقية بعدم قبول نتائج انتخابات برلمانية لم تأت في مصلحتها. أما الوجه الحقيقي والثابت لها فيعبر عنه اجتماعها على المناداة بالنموذج الليبرالي. كما تشترك "الثورات الملونة" بتبنيها هدف الانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي في حالة دول شرق أوروبا، وبناء علاقات مميزة مع الغرب والاحتماء بشعارات "الإصلاح" و"الانفتاح"، في حالة الدول من خارج هذه المنطقة.
وعليه؛ فإن غرفة عمليات تجمع الـ"سي آي إيه" والخارجية الأمريكية وصندوق النقد الدولي، هي مركز الدعم المناسب لهذه الثورات. وربما لهذا، انتهت هذه "الثورات" سريعا، وخلال فترة لا تتجاوز خمس سنوات، بفساد وفضائح حول صنعها وزعمائها.
من المفروغ منه أن "الثورات الملونة" انقلابية في جوهرها، وخلافا لما يشاع فهي لا تستثني العنف لتحقيق أهدافها، وفي الغالب تعتمد على جحافل من مجرمي الشوارع الذين توظفهم "المافيوات" و"قبضايات" حماية رجال الأعمال والشركات الأمنية، الذين يضربون في جمهور "الثورة" نفسه مباشرة، أو اغتيالاً في ظروف تجلب الشبهة للأجهزة الأمنية النظامية (وهذا بالغالب دور الجهد الارتزاقي للموساد الإسرائيلي)؛ وهو الأمر الذي تفعله الأنظمة العربية معكوساً حينما تعمد إلى دس المجرمين من أصحاب السوابق بين المتظاهرين لإيجاد ذريعة لتدخل قوى الأمن.
شهداء "الثورات الملونة" ليسوا ضحايا العنف العشوائي؛ ولكنهم بالعادة ضحايا ضرورة التصعيد والتأجيج المخطط له من طرف قادة "الثورة" الأمنيين وضباط ارتباطها مع الأجهزة الاستخباراتية.
أما تونس فقد فاجأت العالم وتفاجأت بنفسها!
3
يمكن أن نلاحظ أيضاً: تتابعت "الثورات الملونة" في فترة من الفترات، عاماً بعد آخر، وكان يقال حينها إن الأنظمة المعنية تتداعى كأحجار الدومينو، دلالة على هشاشتها، والصحيح أن تلك الدول لم تكن أكثر هشاشة من سواها؛ ولكن كان هناك عمل دؤوب وكبير يحدده جدول أعمال مزدحم وحماسي للأجهزة الاستخباراتية المشرفة على هذه "الثورات" بتأثير العدوانية المندفعة لإدارة جورج بوش الأصولية المتطرفة؛ ويمكن ملاحظة هذا الجدول من التتابع الحثيث: ثورة الورود 2003 وثورة البرتقالية 2004 وثورة السوسن 2005.. الخ!
من اللافت أن هناك جهداً ما، مترجم على المستوى الإعلامي بشكل كبير، لتصوير "الثورات الملونة" كنتيجة طبيعية للتقدم التكنولوجي في قطاع الاتصالات وولادة ما يسمى بالإعلام الاجتماعي ("فيسبوك" و"تويتر" والـ"بلوغز".. وغيرها)، بالرغم من أن تلك "الثورات" كانت تقع في بلدان ليس مشهوداً لها مستوى خاص من التوسع بهذا النوع من "الإعلام". ويمكن فهم ذلك من خلال فتح دفتر الترهات القديمة حينما كان منظرو الرأسمالية المعاصرون من الأمريكيين، يحاولون خلق مفاضلة بين الاشتراكية والرأسمالية، على أساس أن النظام الأول يمثل طوباوية خيالية تستند إلى "أيدلوجيا شمولية"، بينما الثاني واقعية مدنية تستند إلى العلم.
والقواسم المشتركة بين "الثورات الملونة" تجد نفسها حتى في الحياة الخاصة والشخصية لقيادييها؛ فالزوجات الأجنبيات، وبعضهن ممن سبق لهن العمل في البيت الأبيض أو وكالة الاستخبارات المركزية، والجنسيات الغربية والأمريكية هي سمة مشتركة ثابتة ومتكررة. (والوضع بالمناسبة مشابه للحالة العراقية).
تحدث "الثورات الملونة"، عادة، في مناطق شد وجذب قوى بين عظمى (مناطق نفوذ الاتحاد السوفيتي السابق) أو بين دول عظمى وإقليمية (إيران، لبنان)، ولا مكان لها في بلدان محسومة الموقف لحساب الغرب والولايات المتحدة، مثل تونس.
وأخيراً: ما هي "الثورات الملونة"..؟ إنها انقلاب غير دستوري وغير ديمقراطي، والأهم غير شعبي، تستخدم فيه أموال المنتفعين لتوظيف قوة المقهورين للإستيلاء على السلطة؛ أما لماذا هي ملونة، فهذا لأن هذه "الثورات" من تخطيط الدوائر الاستخباراتية الخارجية (بالضرورة) التي لا تحب التعامل مع نظريات اجتماعية أو أيدلوجيا يمكنها بناء صيغ وطنية وقيادات قد تؤسس لشعبية طويلة الأمد أو متجذرة؛ فتعمد إلى توظيف شعارات سياسية براقة وفضفاضة، وتوكل أمر هذه "الثورات" إلى "شركات الدعاية والعلاقات العامة"، تنظمها وتديرها مثلها مثل الحملات الانتخابية تماماً.
وثورة تونس لا علاقة لها بكل هذا السياق!
4
ثورة تونس، حتى وإن امتلأت تونس عن بكرة أبيها بالياسمين، ليست "ثورة الياسمين". بل إن إطلاق وترويج هذا الاسم عليها، هو عنوان اختطافها؛ ومتى ما أصبحت الثورة التونسية "ثورة الياسمين" حقاً، فلنعلم أنه تم اختطافها، ومنه وعليه العوض!
أهمية ثورة تونس أنها أنهت عهد "الثورات الملونة".. "الثورات" المزورة، وأعادت الشعوب إلى قلب المعادلة اليومية للسياسة!

ليست هناك تعليقات: