لا
يخامرني شك، بأن ما يجري في سوريا هو ثورة مضادة. ليس على المستوى المحلي السوري؛
بل على المستوى العربي الشامل.
لقد كانت محاولات اختطاف الثورات، عربياً ودولياً، في الأطر
المحلية فاقدة لزمام المبادرة، وتنتهج أسلوب ركوب الموجة الثورية. وهذا أسلوب
تنكري مجهد وغير مأمون، فأصحابه معرضون بالأثناء لألف امتحان وامتحان يكشف
"تنكرهم" وأقنعتهم..
وكان
لا بد من ثورة مضادة تمسك منذ البداية بزمام المبادرة، وتنتهج أسلوبا هجومياً!
وبدلاً
من حالة التماهي مع الثوار، في محاولة ركوب الموجة لتوجيهها، يأتي خيار التماهي مع
الثورة نفسها، وإنتاج أخرى مضادة في نقطة حاسمة من الصراع العربي الإسرائيلي، تعطل
أية ترجمة سياسية عربية شاملة للثورات؛ والأهم، تسهم في وقف امتداد الثورات نفسها
في البلدان التي تعيش المخاض (ليبيا، اليمن، البحرين)، وكبح جماح قوى الثورة في
البلدان الأخرى، لا سيما تلك التي تمثل أهمية إستراتيجية للغرب.
وهذه
هي: الثورة المضادة في سوريا، إنها انقلاب على كل منجزات الثورات العربية الأخرى!
لقد
دخلنا في عصر الثورات العربية في وقت كان "الإسرائيلي"، بتعدد جنسياته:
العربية والأوروبية والأمريكية، يعيش مأزقاً خطراً في لبنان، في مرحلة شهدت تحولات
سياسية وميدانية، نجح فيها لبنان المقاومة بكشف شبكات التجسس الواسعة الشهيرة،
فيما اشتعلت النار بذيول "الحريرية" وظهرت نذر تهاوي حكومة
"المستقبل".
في
ذلك الوقت نفسه، لجأ "الإسرائيلي" إلى التأزيم السياسي الإقليمي
باستخدام التلويح بقرار اتهامي يدين "حزب الله" وربما سوريا باغتيال
رفيق الحريري، دون استخدامه فعلياً، حيث راح يؤجل موعده يوماً بيوم، وأسبوعاً بعد
أسبوع، لعلمه أن ذلك قد يستجلب ردة فعل حازمة، قد تتم ترجمتها إلى حرب، أبدى
السوريون لأول مرة استعدادهم لخوضها بتصريحات علنية مباشرة.
وكانت
إسرائيل تدرك أن
الدخول في حرب ولو مع "حزب
الله" منفرداً ستكون خطوة غير مأمونة النتائج،
فـ"الحزب" كان قد نجح خلال السنوات الخمس التي مضت منذ حرب تموز بتحقيق
"فائض قوة"؛ إلا أن تَجنُّب المواجهة معه والسكوت على ذلك، يعظم من قوته
ويتيح له ولحليفه السوري الوقت الكافي لتطويع الخصوم اللبنانيين، وتمتين جبهته في
الداخل.
والخياران أسوأ من أن تحتمل إسرائيل
أي منهما!
وتلجأ إسرائيل، بالعادة، في وضع يائس
مثل هذا، إلى العمليات الجريئة الخاطفة، التي تخلخل من ميزان القوة وتغير في المعطيات.
ولكن الزعامات الإسرائيلية، اليوم، التي تتميز بالتطرف دون التمتع بالكاريزما
الكافية أو الشعبية المريحة، أضعف من أن تتحمل وزر جرأة غير مضمونة النتائج.
وهنا، دخلنا
عصر الثورات العربية، التي وفرت من مبدأ "رب ضارة نافعة" فرصة لتنظيم
ثورة مضادة في سوريا، أربكت الداخل السوري، وزعزعت
استقراره، وأشغلته، وزحزحته من تموضعه المريح في السياسة الدولية كلاعب قوي، إلى
بلد تتناهبه العصابات والاضطراب، وهدفاً سهلاً لسهام "الإسرائيلي"،
بمختلف ألوانه.
ومن جهة أخرى، حلت الثورة
المضادة "السورية" محل القرار الإتهامي، وفي حال دعمها
بقرارات دولية، فإنها توفر لإسرائيل الظرف المناسب والمأمون لشن حرب كانت تحتاجها
بشدة، وتخشاها بنفس القوة!
إن
الثورة المضادة "السورية"، في المساحة التي اكتسحتها من الأرض الإعلامية
والضجيج الدولي، تسجل اندفاعه تدميرية إلى الأمام؛ فمحاولات المماهاة بين النظام
السوري والنظام العراقي السابق (الحكايات حول ماهر الأسد، وعلاقات العائلة ودورها،
والعسكريين المنشقين، وغير ذلك) تذهب باتجاه فرض حرب إسرائيلية على سوريا، تركب
باص الثورة، ويتم التأسيس لها بقرارات دولية.
ويأمل
الصهاينة أنهم لن يضطروا لخوض الحرب ضد سوريا ولبنان، هذه المرة، تحت يافطتهم
التقليدية: الدفاع عن أمن إسرائيل. بل تنفيذاً للإرادة الدولية؛ ويبدو أن هناك
أطرافاً عربية رسمية ونخبوية وإعلامية تجتهد في المساعدة على توفير التفويض الدولي
لهذه الحرب..!
=============
ملاحظة:
في الجزء الأخير من المقال تم الاعتماد عمدا وعن قصد على
مقاطع معاد تحريرها من مقال لي بعنوان: "صراع عقول"، كتب ونشر قبيل سقوط
حكومة سعد الحريري في لبنان. هذا رابطه:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق