الخميس، 17 فبراير 2011

صراع عقول


الجدل الدائر حول المحكمة الدولية لا يضير "حزب الله"، لا سيما بعد "اطلالة القرائن" الشهيرة لأمين عام الحزب، وما تبعها من إطلالات مختلفة؛ وبالعكس، يمكن أن نلحظ أن ما يحدث الآن، بالنسبة لـ"الحزب"، مجرد صراع عقول يقدم خلاله دفوعه ومرافعاته للرأي العام مباشرة، عبر جهد يجري بمسارين: على الأرض ميدانياً من خلال الكشف العملاء وأساليب التجسس، التي تفسر الطلاسم الغامضة التي تصر المحكمة الدولية ومحققيها على تجنبها، وإعلامياً من خلال اطلالات الإعلامية لتفنيد منطق المحكمة الدولية ونقض أساسها القانوني.
و"الحزب" يفيد، هنا، من ذلك بإثبات براءته، وسحب البساط من تحت أقدام المحكمة الدولية، التي تتهاوى بفعل الاستغلال السياسي والخروقات المتكررة للأصول القانونية والقضائية، وفشلها في إجراء تحقيق يتمتع بالمصداقية، يقدم رواية متماسكة تفسر وتوضح كل الطلاسم المحيرة. وعملياً، فإن "الحزب" يكون في ذروة شعبيته في تلك الساعات التي يظهر فيها أمينه العام على الشاشة.
هذا جانب..
في الجانب الآخر، فإن "الحزب" يريد، بلا شك، أن يدفع القرار الاتهامي، ما استطاع.. ولكنه، كما هو واضح جلياً، لن يقدم تنازلاً لقاء ذلك. وتأخر الحراك السوري - السعودي في التوصل إلى نتائج، يعكس حقيقة الموقف: أن "الحزب" ليس في عجلة من أمره، ولا يخشى الاتهام بحد ذاته؛ وهو بالتالي، لا يجد في البراءة (السياسية عبر الوساطة.. أو حتى القضائية عبر المحكمة الدولية) مكسباً جوهرياً.
فالاغتيال، في لبنان، ليس جريمة. بل مجرد "زلة سلاح".
والبراءة، في لبنان، ليست طهارة سياسية..!
وبالمقابل، يدرك "الحزب" أن القرار الاتهامي، الذي تحاول بعض الأوساط المعنية بخبث التقليل من شأنه لتمريره دون التسبب بتصدع نهائي لتحالف 14 آذار المتهالك (تمت مساومة الحزب للقبول بتوجيه الاتهام لأفراد خارجين عن سيطرته) يتيح لخصوم الحزب الإسرائيليين والأمريكيين، تحقيق هدف عزيز وغال.. فإذا كان اغتيال الحريري مشروعاً لتأزيم الوضع اللبناني، فالمحكمة مشروع لتدويل الأزمة اللبنانية ووضعها تحت الفصل السابع.
لقد أنشئت المحكمة الدولية بالفعل؛ وسواء رفض "الحزب" المحكمة وقرارها الاتهامي أم قبلهما، فإن الانتقال للمرحلة التالية سيكون فورياً؛ حيث سيتم تجاهل الدولة اللبنانية تماماً، وتهيئة "شرعية" دولية لجهد عسكري إسرائيلي أمريكي.. وربما أوروبي يبدأ بتحويل قوات "اليونيفل" المرابطة في جنوب لبنان من قوات مراقبة دولية إلى قوات مقاتلة.
هل ثمة مبالغة هنا..!؟
يجب أن نتذكر أن كل عملية إسرائيلية ضد لبنان، شهدت مشاركة أمريكية، أو على الأقل، حملت شبهات قوية حول مثل تلك المشاركة في الفصول الحاسمة. ولنتذكر أن قرار الحرب في تموز عام 2006 كان بيد وزيرة الخارجية الأمريكية، كونداليزا رايس، التي أصرت لأكثر من أسبوعين على مواصلة العمليات القتالية، رغم الرغبة الإسرائيلية بالتوصل لإيقاف إطلاق النار بأي ثمن.
وتدرك إسرائيل أن الدخول في حرب مع "الحزب"، الذي  نجح خلال السنوات الخمس الماضية من تحقيق "فائض قوة"،  لن تكون مضمون النتائج؛ إلا أن تَجنُّب المواجهة معه يعظم من قوته، ويتيح له ولحليفه السوري الوقت الكافي لتطويع الخصوم اللبنانيين، وتمتين جبهته في الداخل. والخياران أسوأ من أن تحتمل إسرائيل أي منهما.
وتلجأ إسرائيل، بالعادة، في وضع يائس مثل هذا، إلى العمليات الجريئة الخاطفة، التي تخلخل من ميزان القوة وتغير في المعطيات. ولكن الزعامات الإسرائيلية، اليوم، التي تتميز بالتطرف دون التمتع بالكاريزما الكافية أو الشعبية المريحة، أضعف من أن تتحمل وزر جرأة غير مضمونة النتائج. وعليه، فهم بحاجة لتهيئة الجو العام لمشاركة أمريكية.
إن دور القرار الاتهامي يتمثل بتوفير غطاء أممي (ولو شكلي) لحرب دولية على "الحزب". وهو جزء من تهيئة الأرض للمشاركة الأمريكية في المعركة المقبلة. في حين أن المحكمة الدولية، هي المهمة التي ورثتها إدارة أوباما، المتعطشة إلى تحقيق أي انجاز في ظل حلقات الفشل المتلاحقة، التي منيت بها لغاية اليوم، على أكثر من صعيد.
وتبدأ الحرب، بالطبع، بالضغط السياسي على الحزب، في أجواء يتناغم فيها الخصوم الداخليون مع القوى الخارجية، فيما يأخذ الأسطول الخامس الأمريكي مكانه بقرب المياه الإقليمية للبنان، في حين تتولى بعض القوى العربية تفعيل "طوابيرها الخامسة"، بينما يتم ضرب الاستقرار والسلم الأهلي من خلال مجموعات أصولية انتحارية.
نقطة أساسية: "الحزب" الذي خاض معركته السابقة في العام 2006 مكشوف الظهر داخليا، لن يسمح بأن تداهمه الحرب الجديدة وظهره مكشوف. والواقع أن ما يقلق "الحزب" في ذلك ليس عملية "وضع اليد" على الداخل، بحد ذاتها؛ ولكن موعدها وغطاؤها السياسي..
فالموعد يجب أن لا يسبق العدوان الإسرائيلي كثيراً. والغطاء السياسي يتكامل بتفتت كتلة 14 آذار، وبعودة الزعماء اللبنانيين إلى السفر على طريق بيروت - دمشق، التي أعاد الزعيم الدرزي وليد جنبلاط تدشينها من جديد. أما السيناريو المحتمل فحكومة جديدة.. حليفة ومساندة. ويبدأ بمحاولة إقناع الحكومة باتخاذ موقف جذري لرد القرار الاتهامي وسحب القضاة اللبنانيين من المحكمة الدولية. وفي حال عدم الاستجابة سيتم سحب وزراء "الحزب" وحلفائه، وربما وزراء جنبلاط أيضاً، من الحكومة وحجب الثقة عنها، وتشكيل أخرى بعيدة عن هيمنة "تيار المستقبل"، تضع يدها على "الداخل"، وتعمل وفق أجندة تحمي ظهر المقاومة وتتيح لها التفرغ لمواجهة العدوان، والحفاظ على المكتسبات بعده.
ما الذي يؤجل كل ذلك..!؟
ما من تأجيل. لقد بدأ "الحزب" فعلاً معركته ضد المحكمة، وضد القرار الاتهامي!

yassek@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: