الخميس، 17 فبراير 2011

لجنة صانع الديناميت


صفى الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط، أمام الرأي العام، ملفه الذي كشفه موقع "ويكيليكس"، بهدوء وبجملتين فقط: "لن أنفي شيئاً مما نقله الموقع عني" و"لقد كنت في غربة"؛ في الأولى أكد صحة ما نقل عنه، وفي الثانية برره.
وكعادة جنبلاط لم يتوقف عند ذلك وحسب، بل زاد بأن دعا بقية أقرانه السياسيين للاعتراف بالحقائق التي كشفها الموقع عنهم؛ طالما وأن الأمر لا يخرج عن نطاق "الغربة"، المنتهية بالنسبة له والمستمرة بالنسبة لآخرين.
جنبلاط، الذي كانت "غربته" قد بلغت مداها قبل بضعة سنوات حينما زار الولايات المتحدة وحظي باستقبال باهر بتوصية من السفير الأمريكي في لبنان، آنذاك، جيفري فيلتمان، ووصلت حدّ إعلانه غبطته مضيفيه الأمريكيين على معسكر اعتقال "غوانتنامو" متمنياً لو أن للبنان "غوانتنامو" الخاص به، زاد أيضاً فاقترح منح مؤسس موقع "ويكيليكس" جوليان آسانج جائزة نوبل للسلام!
ويبدو أن اقتراحات جنبلاط، سواء ما تعلق منها بالإعتراف بالحقائق أو تلك المتعلقة بمنح آسانج جائزة نوبل للسلام، لا تضرب في الصميم أقرانه من قادة المليشيات السياسية الطائفية في لبنان فقط، بل وتهزأ بعواصم "العالم المتحضر" التي تدير العالم وتتعامل مع قضاياه بالطريقة المليشياوية ذاتها التي يشهدها في لبنان..
لقد جاء اقتراحه في الوقت الذي كان فيه الغرب كله، الأوروبي والأمريكي على حد سواء، منشغلاً بشن حملة شعواء على الصين في إدانة هستيرية مبرمجة لردة فعلها على منح الأكاديمية السويدية جائزة نوبل للسلام للمنشق "لياو تشياو بو" (منحه الجائزة، بحد ذاته، هو جزء من الحملة)، معليا الصوت مطالباً بصون الحريات وحقوق الإنسان و.. و.. الخ. دون أن يفطن إلى أنه، في ذلك الوقت نفسه، يجند كل طاقاته وقواه الأمنية والإستخباراتية والتكنولوجية لمطاردة جوليان آسانج وموقعه الاليكتروني، لا لشيء إلا لأنه وفر إمكانية مذهلة لمراقبة عمل الحكومة الأمريكية، التي توزع على العالم "وصفات ديمقراطية" لتمكين الشعوب من مراقبة عمل الحكومات!
هل نختلف كثيرا حول السؤال: المنشق الصيني، الذي نبهنا منحه الجائزة أنه موجـود دون أن نعرف المزيد عنه.. أم آسانج!؟
ليس مهماً، إذ أن الأمر لا يتوقف على جائزة نوبل؛ فقد اختارت مجلة "تايم" الأمريكية مارك زوكربيرغ مؤسس موقع "فيس بوك" شخصية العام؛ وبرغم كل شيء، فهناك اعتقاد قوي أن اختيار مؤسس موقع الكتروني، بالذات،  "شخصيةً لهذا العام"، لم يأت إلا لتسويغ استبعاد مستحقها الحقيقي!
هذه القناعة تقود، بطبيعة الحال، للبحث قليلا في الموضوع. والبحث يقودنا لاكتشاف أن خيار قراء الـ"تايم" كان آسانج بلا منازع وبفارق كبير بينه وبين الشخصية التي تلته (متقدما بـ380 ألف صوت على رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان الذي حل ثانياً بحصوله على نحو 150 ألف صوت)؛ إلا أن هيئة تحرير المجلة قررت استبعاد نتائج الاستفتاء واختيار مارك زوكربيرغ "رجلا لهذا العام" بقرار منها، أو ربما استجابة للضغوط المليشياوية الغربية.
لقد وجد رئيس تحرير المجلة، ريك ستينغل، نفسه مضطراً لتبرير ذلك، فخصص افتتاحيته لعقد مقارنات عمياء بين الرجلين (المستحق والفائز)، بلغة تقبح الأول وتُجمل الثاني: "آسانج وزوكربيرغ شخصيتان متشابهتان برغبتهما في الانفتاح وتحدي السلطة". ويواصل تجميل إنحياز هيئة التحرير غير الموضوعي بقوله: "إن آسانج ينظر إلى العالم على أنه مليء بالأعداء الحقيقيين والوهميين في حين ينظر زوكربيرغ إلى العالم على أنه مليء بالأصدقاء المحتملين".
ويضيف: "آسانج وزوكربيرغ وجهان لعملة واحدة بمعنى ما. فكلاهما يعبران عن رغبة في الانفتاح والشفافية. وفي حين ان آسانج يستهدف المؤسسات الكبيرة والحكومات من خلال شفافية لا إرادية لتجريدها من سطوتها فإن زوكربيرغ يتيح للأفراد ان يتقاسموا المعلومات مدفوعا بفكرة تمكينهم".
ولكنهما ليسا "وجهان لعملة واحدة"!
إن الفارق بين آسانج الصحفي والمبرمج الاسترالي ومارك زوكربيرغ المولود في أمريكا من أب وأم يهوديين، متعدد المستويات، وهو الفارق نفسه بين موقعيهما؛ فإن كان أولهما يجتهد ليقوم بدور فعال في الرقابة على عمل الحكومات وحقق نجاحات مذهلة ومتعبة في مجاله (لم تجلب عليه كل هذا الاستياء حينما كانت تتعلق بحكومات عالم ثالثية، بل أهلته للجوائز والتكريم الغربي)، فإن الثاني يتم التهليل له من قبل الحكومات الغربية بوصفه بنى أداة تكنولوجية فعالة لإختراق وكسر الأطر الصلبة في المجتمعات التقليدية. وبينما الأول مطارد ومهدد بالسجن والحاجة المستمرة لتوفير تمويل لموقعه غير الربحي، فإن الثاني يتربع سعيداً في قائمة أغنى الأغنياء بوصفه أصغر ملياردير في العالم.
لا نحتاج لأن نحب آسانج أو موقعه الاليكتروني لنقر بأنهما أحدثا نقلة نوعية في إثارة الانتباه إلى خطورة الممارسة السياسية في الظلام وفي ظل عتمة حجب المعلومات عن الشعوب وممثليها في البرلمانات والمؤسسات الحقوقية، وما يؤدي إليه ذلك من جرائم بشعة يندى لها الجبين ويشيب لها شعر الوليد..
لقد قال تشرتشل يوماً: "الحقيقة تحتاج إلى جيش من الأكاذيب ليحميها"، إلا أنه لم يقل أية حقيقة هذه التي تحتاج إلى مثل هذه الحماية، من مثل هذا الجيش. ولكننا اليوم نعلم (وجزء من الفضل في ذلك يعود لـ"ويكيليكس") أنها الحقيقة البشعة الكريهة، الظلامية المتطرفة، الخارجة من بيت الأصولية السياسية الغربية، وربما كانت محاولته دحر جيوش الأكاذيب التي تحمي هذه الحقيقة الغربية المقيتة هو ما استبعد آسانج عن قائمة نوبل وغلاف "التايم"!
وبالمناسبة، فإن الأكاديمية السويدية ذاتها، كانت منحت تزلفا جائزتها للآداب العام 1953 (العام الذي سبق منحها لأرنست هيمنغواي) لونستون تشرتشل نفسه عن "مؤلفاته في التاريخ الإنجليزي والعالمي"، والمقصود بها سيرته الذاتية في بريطانيا والمستعمرات، التي لم تخل بالضرورة من جيوش الأكاذيب إياها؛ ولم يلق هذا سوى الاستحسان من وسائل الإعلام الغربية التي لم تتوان عن التشهير بالواقع السوفيتي والتندر على منح ليونيد بريجنيف عضوية اتحاد الكتاب السوفيت، في سبعينات القرن الماضي، عن كتاب يروي سيرة حياته!
معلومة ختامية: بعد البحث حول المنشق الصيني "لياو تشياو بو" اتضح أنه منافح مندفع عن سياسات إسرائيل وجورج بوش وحروبهما، وقد دعا ثم أيد بحماس غزو أفغانستان والعراق وأثنى على حربي كوريا وفيتنام؛ وهي كلها حروب حفلت بالإنتهاكات الفظيعة والشاملة لحقوق الإنسان وزعزعت الاستقرار والسلم العالمي.. داعية الحرب هذا كان هو، بالذات، خيار الأكاديمية السويدية الأخير لجائزة نوبل للسلام.
إنها، ببساطة، لجنة توزع جائزة صانع الديناميت!
مجرد فصيل آخر في جيش، من جيوش الأكاذيب، التي نوه عنها تشرتشل!
yassek@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: