الخميس، 17 فبراير 2011

اليوم.. مات رفيق الحريري!


أنصار ومحبو رئيس الوزراء اللبناني الراحل، رفيق الحريري، الذي استهدفه انفجار مروع شباط عام 2005، يستطيعون الآن بكاءه وندبه وتقبل العزاء به؛ فقد مات اليوم!
1
كان الراحل الحريري حياً، طوال السنوات الماضية، كذكرى ونهج سياسي ومدرسة في التعاطي في الشأن اللبناني شديد التعقيد والتشابك. وحافظ على بقائه حياً بعد استهدافه طوال نحو سبع سنوات، رغم الدهاليز السوداء التي سارها نجله وراء مستشارين وحلفاء، عرفوا أن يأخذوا منه ما أرادوه، وما لم يستطيعوا أخذه من أبيه، وتركوه ليصبح أمثولة سياسية على توريث خائب، لم يحصل مثله في أسوأ الأمثلة العربية، سواء توريثاً لزعامة عائلية أو حزبية أو سياسية!
ويستطيع محبو الحريري الأب، الآن، أن يوجهوا سهام النقد واللوم للابن، الذي أثبت في الأسبوعين الماضيين وصولاً إلى يوم تكليف نجيب ميقاتي، أنه لا يتمتع بشيء من كياسة الأب، وحسن تدبره، وتعامله مع انقلابات الواقع والسياسة؛ أما أولئك الذين يحاكمون الراحل الحريري من خلال دوره السياسي، فيمكنهم أن يرتاحوا ويطمئنوا إلى أنهم أخيراً شهدوا مشروعه ينهار بأكمله، ويتداعى حطاماً إلى أسفله، ويتناثر بشكل لن يسهل بعدها جمعه وتسويقه..
وأياً كان مشروع الحريري الأب، إلا أنه كان مكلفاً للبنان على المستوى الاقتصادي والاجتماعي؛ فرجل الأعمال الذي اقتحم السياسة اللبنانية بتوصية ورعاية سعودية، ملأ الدنيا وشغل الناس بكلام كبير عن مستقبل لبناني واعد مع قيادته، وقدرته على تحويل الهواء اللبناني إلى أرقام نمو وتقدم اقتصادي، وإنماء، واعمار، واتضح أن كل ما يمكن أن يفعله للناس ليس إلا قدرة المحسنين من الموسرين في أفضل الأحوال؛ أما للبلد، فليس لديه ما يقدمه له، عدا عن المديونية المليارية، إلا حياً تجارياً، كالتي تبنيها وتستثمرها بقية ما خلق الله من شركات اعمارية في مختلف العواصم العربية، وبالشروط الجشعة نفسها.
وكان هذا سيمر، ويغتفر، ولكن الراحل الحريري، في الجزء الثاني من جردة الحساب، اقترف في طريقه لتحقيق مشروعه أسوأ خطيئة ممكنة بحق لبنان، حيث استخدم موارده المالية بكل ما أوتي من جهد وقوة لتحويل السنة، الذين كانوا طوال تاريخهم ومع قياداتهم التقليدية يمثلون الجسم العلماني وحماة الجوهر الوطني العروبي للبنان، إلى مجرد "طائفة" تضاف إلى قائمة الطوائف "المتمذهبة" في هذا البلد المنكوب.
2
تتمثل مأساة الحريري الأب ونهايته في أن جهوده الكبيرة في "طوفنة" السنة و"مذهبتهم"، نجحت أكثر ما نجحت في بيته وأهله، وربما تكون نجحت هنا أكثر من اللازم؛ فهذا نجله، الذي فتحت له أبواب السياسة ليكون زعيماً لبنانياً من أوسع أبواب التعاطف والشعبية، لم يستطع أن يستقر على كرسي هذه الزعامة، وارتدّ سريعاً زعيماً لطائفة تبخرت في غمضة عين..
بلى..
في غمضة عين، طار غبار "الحريرية" عن السنة في لبنان، ولم تعد إطاراً مرجعياً جامعاً وشرعياً، يودع زعامته عند رجل واحد! 
بلى..
ما يزال بعضهم يضع أمانته عند نجل الحريري، الذي تكفيه اليوم مرارة الخيبة، وذلك لأن الوقت لم يمض بعد، و"الخيبة" ما تزال أمراً مستجداً لم تأخذ مفاعيله مداها. ولأن السنة، كما تبين، ليسوا جيشاً ولا "ميليشيا" أو "طائفة" تؤمر فتأتمر!
وتتمثل مأساة الابن في أنه أفاق على نفسه زعيما لشعب، وفي غمضة عين أضحى مجرد زعيم لطائفة، وفي غمضة تالية استيقظ على نفسه قائداً لتيار لا حول له ولا قوة، وقد فوت منعطفاً سياسياً إلزامياً وخطراً..
وبينما لا يجد، اليوم، لديه السلطة أو مجرد القدرة أن يدفع الاعتقال والمحاسبة عن ناشطي تياره الذين أطلقهم في شارع الشغب قبل أن يتخلى عنهم بكلمة متلفزة تحاول إيجاد ثغرة للحفاظ على مجرد الحضور السياسي، سيفيق مرة ثالثة ليجد أنه كان مجرد شحنة سياسية زائدة تم إفراغها في الأرض..
ولسوء طالعه، فإن له جفناً رخواً، ولا تفتأ عينه ترمش، وإن لا يسعفه حظه وبعض ما بقي لدى الجهات الداعمة من تعاطف، فقد يجد في رمشة عين أخرى أنه، هو نفسه، رهن المساءلة والمحاسبة!
3
استحضار أخطاء الحريري الأب، يفرض نفسه لتجنب ذكر أخطاء الابن؛ لا سيما وأن الفارق بين أخطائهما هو الفارق بين عقليهما وشأنهما في الحياة؛ فبقدر ما يمكن أن يوصف الأب بالكبير يتراجع حجم الابن إلى حد لا تصبح رؤيته ممكنة. وإذا كان الأب الراحل صاحب أخطاء كبيرة، فإن الابن يغدو بحجم الحماقات الصغيرة في مقام كبير.
ومع ذلك، ما الذي ارتكبه الابن من أخطاء؟ هي أكثر من أن تحصى، وعلى رأسها الأخطاء التي حكمت عليه بالفشل كرئيس حكومة وكزعيم لتيار سياسي؛ فحكومته لم تستطع برئاسته أن تنجز شيئاً، وقاد البلاد وتياره إلى أفق سياسي مسدود.
ولكن أفظع الأخطاء هي تلك التي ارتكبها بحق أصدق أنصاره: استورثوه في أبيه، وأرادوا منه أن يؤمِّن امتداداً له، فكان ابن صنائع أبيه وامتداداً لهم!
وهذا لا يلغي أن البعض يرى أن أفظع أخطائه، على الإطلاق، هي ثقته المطلقة بزعامته وتصديقه أن لها أنصاراً(!) ولكن يفترض أن لا يشكل ذلك معضلة له، فلأبيه الراحل أنصار، إن عزّ عليه الأنصار يلتفون حوله ويبددون، بتعاطفهم، وحدته السياسية.
ولكن..
يصدف أن يكون هذا أسوأ ما في الأمر؛ فقد تعامل الحريري الابن، في خاتمة المطاف، مع الرؤوس الكبيرة من حلفاء أبيه، وبالذات أولئك الذين كانوا أنداداً أحراراً للحريري الأب، بالطريقة التي يتعامل بها مع محدثي السياسة والدمى التي أحاط نفسه بهم، منتظراً منهم ما ينتظر من صنائعه: يؤمروا فيأتمروا، يسمعوا فيطيعوا، ويزجروا فيرتدعوا.
لم يدر بخلده، أبداً، أنهم لم يكونوا ليقبلوا ذلك حتى من أبيه الراحل، فاستحق أن يتفاجأ بهول أن زعامة السنة موزعة في بيوت ورجالات ارتضى بعضهم أن يكونوا له حلفاء دون أن يمنعهم ذلك من ترؤس حكومة يعتقد أنها آلت إليه كجزء من ميراثه العائلي؛ واستحق أن يتفاجأ بأن راعيه السعودي يتعامل معهم بمستوى من الجدية، يزيد جدية عن تعامله معه ولا يقل عن تعامله مع أبيه الراحل، وقبل بهم بدلاً منه بأريحية تامة..
ولم تكن مفاجأة داعمه الفرنسي، له، بأقل من ذلك..!
4
اليوم ينفضّ أنصار الابن عنه، ويبقى أنصار الحريري الأب الخُلّص، الذين سيكون عليهم أن يواصلوا مشوارهم دون وهم الزعامة الممتدة؛ وقد تأخذ ردة فعلهم الغاضبة شكل التشكيك ببنوة الابن لأبيه ومحاكمته لتسببه في موته..
وبالطبع، سيبقى هناك من لا يجد سبباً للتمييز بين الحريري الأب والابن و"الحريرية"، في وجهيها: البشوش قبل الاغتيال والمستهتر بعده، فيردد بارتياح من أرهقه التعاطف الطويل المكلف واضطراره للشعور بالذنب دون ذنب:
بلى..
أُغتيل الحريري في شباط عام 2005، واليوم مات!
yassek@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: