نالت الشقيقة الكبرى "الاستقلال" و"الاستقرار" في مطلع الثلاثينات، بينما تحقق لشقيقاتها الأصغر ذلك رسمياً خلال السنوات الثلاث الأولى من مطلع السبعينات، باستثناء الكويت التي استقلت في بداية الستينات.
والأهم، فإن عقل الرياض، رغم "الاستقلال" و"الاستقرار"، كان في ذلك الوقت الذي لم يكن فيه لـ"السعودية" معنى وتعريف جغرافي، بعد، ما يزال يتحرك في فضاء الجزيرة العربية بأكمله، دون حدود منظورة؛ والأمر برمته كان يذكر بسلوك الدولة السعودية الأولى، التي توسعت في المنطقة الشرقية ولم تتوقف هناك، فضمت إليها قطر والبحرين (مطلع 1800م)، قبل أن تخرج مضطرة بعد ذلك بعامين من قطر، التي حظيت بمساعدة سلطان مسقط.
بطبيعة الحال، لعبت الحماية الأجنبية دوراً في نقل عقل الدولة السعودية الثالثة (الحالية) من الحركة الحرة في فضاء الجزيرة العربية على اتساعه، وتقييده بنطاق جغرافي محدد حمل لاحقاً اسم "السعودية"، وعملياً، بكبح جماح طموحاته بالتمدد على حساب الشقيقات الأصغر. ولم تكن هذه بالعملية السهلة، فقد احتفظت الدولة السعودية الثالثة بالتعامل مع الشقيقات الأصغر باعتبارها "محميات قبلية"، وبوصفهن مهمة مؤجلة في جهود "توحيد" المملكة.
وبالفعل، فقد عبرت هذه الرؤية عن نفسها في أول فرصة بعد السيطرة على نجد، إذ ما لبثت أن تفجرت في العام 1920 أزمة حدودية بين الكويت و"نجد" التي يحكمها الملك عبد العزيز بجيشه المؤلف من جحافل الوهابيين الجموحين (الإخوان)، فتم تسجيل أول اجتياح تتعرض له الكويت في القرن العشرين؛ والمفارقة أن هذا الاجتياح تطابق، في هوله ووقائعه، مع الاجتياح العراقي في مطلع تسعينات القرن الماضي، إلى درجة أنه مثل "بروفة" حقيقية له، تنبئ بمآلاته التي رأيناها في العقدين الماضيين.
وبحسب ما يذكر الطبيب الإنكليزي ستانلي ماليري، فإن ابن سعود كان "يتطلع بشوق إلى الكويت نظرًا لمينائها العميق الذي يشكل ميناءً بحريًا ممتازًا وأحد أهم المراكز التجارية في الخليج العربي، وسيعطي امتلاك هذا الميناء منفذا هائلا للدولة السعودية الناشئة (الثالثة)".
وخلافاً للحالة العراقية، انتهى "الاجتياح"، الذي شكلت معركة الجهراء الشهيرة واحدة من أبرز أحداثه، بالصلح الذي فرضته السفينتان الحربيتان الإنجليزيتان: "اسبيكل" و"لورنس" مدعومتين بمساندة طائرتين بريطانيتين.
دفع ذلك السعودية، بطبيعة الحال، إلى "الهدوء". ولكنها بالمقابل احتفظت ببؤر الخلاف الحدودية مع جميع شقيقاتها، اللواتي بقين بالنسبة لها مجرد "محميات قبلية"؛ لذا، فبينما كانت جحافل الأخوان (الوهابيين) تُغير على أطراف الشام، لم تكن تغفل في الوقت نفسه عن دك أطراف الجزيرة، بين وقت وآخر، مثيرة قلقاً "وجوديا" عميقاً لدى الشقيقات الأصغر.
ظل الحال كذلك، إلى أن تغير العالم في منتصف القرن الماضي، مع ظهور العامل الإسرائيلي، والصعود الجامح للدور المصري واجتيازه البحر الأحمر ليضع قدماً في الجزيرة العربية من بوابة اليمن. وكان هذا لوحده أمراً مقلقاً بشكل خاص من حيث هو يعيد ذكريات الدولة السعودية الأولى التي انتهت على يد قوات إبراهيم باشا المصرية.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، فآيات القلق كانت تجيء مرعبة من تقلقل الأوضاع في العراق وسوريا، حيث الانقلابات المتتابعة كشفت عن هشاشة "منظومات" الحكم العربية، في الحواضر التي يفترض أنها استفادت من إرث الإدارة العثمانية. ناهيك عن صعود المد القومي واليساري، الذي تردد صداه في أنحاء الجزيرة العربية؛ وقد دفع ذلك، كله، بالشقيقة الخليجية الكبرى إلى الانعطاف باتجاه الانشغال عن الحدود والمطامع، إلى شراء التآلف والتحالف. وبرغم ذلك، فإن الملفات الحدودية بقيت حاضرة تختزن أسباب التوتر، وتحتفظ بكامل وجاهتها، لدرجة أنها أخرت اعتراف السعودية باستقلال شقيقاتها.
وفي السبعينات، تدفقت نافورة النفط بشكل لا سابق له، ودخلت على ميدان الأحداث بقوة، حين اتضح أنها تملك مفاتيح العالم؛ الأمر الذي أدى للقلق بشأن اليد التي تتحكم بها؛ وهو ما عنى بالتالي، مصلحة غربية ببقاء الخارطة السياسية على ما هي عليه، فأضحت الشقيقات، بحجمهن الذي لا يتناسب مع الثروة الهائلة، ذات جاذبية استثنائية.
وبالمقابل، بدا أن الدولة السعودية تمتلك من النفط ما يجعل حجمها أضخم مما يجب، ومما يطيق الحليف الغربي، وبات من غير الوارد القبول بإمكانية السماح لها باكتساب أي حجم إضافي. الأمر الذي اضطرت الشقيقة الكبرى إلى استيعابه بأكثر من طريقة، ودفعها في النهاية إلى التعاطي "الأخوي" مع شقيقاتها، وصولاً إلى مطلع الثمانينات حيث تم إنشاء مجلس التعاون الخليجي، الذي كانت الثورة الإيرانية تكمن في خلفياته.
ولكن هذه المسيرة الطويلة، من العلاقات الملتبسة، والقلق المزمن، أورثت بعض الشقيقات الأصغر شعوراً فادحاً بوطأة ضخامة حجم الشقيقة الكبرى، الذي يعطيها النفوذ والقوة والأفضلية، ويتيح لها مجالاً للسيطرة على قواعد اللعب؛ والأهم، أنه لا يلبث يوقظ فيها النهم القديم إلى التوسع عبر الابتلاع. بالرغم من الأمل في أن يؤدي "المجلس" إلى "تحريم" النهم، وإيجاد إمكانية لـ"إدارة" وطأة الضخامة.
ومن هنا، فإن دولة مثل قطر تراهن على أن هذه الضخامة في الحجم والوزن، التي تحمل في طياتها "خطر" التحلل، قد تكون حقل الاستثمار المستقبلي الأمثل، وقد لا يكون ذلك سيئاً بالنسبة لدول ترهقها ضآلة حجمها جغرافياً وديمغرافياً، طالما أن التحلل قد يؤدي ربما إلى إعادة توزيع القوة والنفوذ عبر تحقيق التساوي في الحجوم والأوزان الجغرافية والديمغرافية والاقتصادية.
إن الأردن، الذي عانى مثل بقية الشقيقات الأصغر من هجمات جحافل الوهابيين حتى منتصف القرن الماضي، وكان له ملفه من الالتباس الحدودي مع الشقيقة الكبرى، يواجه اليوم معضلة: فإن أدرك موقعه الحقيقي في "المجلس" بين الشقيقات الأصغر، وجد نفسه مغضوباً عليه، وإن لم يدرك موقعه الحقيقي، نهشته السهام، وأضحى منبوذاً في حضن الشقيقة الكبرى.
ربما تكون هذه مقدمة لفهم مستقبل الأردن في "المجلس"، ولكنها بالتأكيد لا تكفي لفك طلاسم الخليج!

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق