السبت، 31 مارس 2012

لم يكن ربيعاً بل حرباً غاشمة


بات "الربيع العربي" بحكم المنتهي؛ توقف مده، ونضبت قوته الدافعة، ولم يعد من المحتمل أن يمتد أو يتوسع أو أن تنتقل عدواه إلى دول جديدة. والاحتمالات الضئيلة بهذا الشأن لا تبدو وثيقة الصلة بحالة التأجج السياسي التي شهدناها على مدار عام، وستأخذ سياقاً آخر لا علاقة له بالمفاهيم التي راجت حول ما يسمى بـ"الربيع العربي"، بغض النظر عن مدى دقة هذه المفاهيم.
في المحصلة، وبميزان الأرباح والخسائر، جاءت كلفة "الربيع العربي" عالية جداً، تجاوزت في تأثيرها المدى المتوسط على أقل تقدير، لا سيما أنه فشل في أن يكون حالة انتقال من وضع إلى وضع، أي من نظام إلى نظام، ليمثل حالة انتقال من نظام إلى وضع انتقالي طويل مضطرب لا يعرف الاستقرار، حيث الفوضى واختلال الميزان الاجتماعي وتهميش الدولة، وتحطيمها في أحيان أخرى (ليبيا) وتعطيلها في البقية الباقية من دول "الربيع العربي".
محصلة "الربيع العربي" من الأرباح والخسائر تساوي بحسبة متواضعة خسارة حرب كبرى؛ فـ"الثورات" التي نجحت بالإطاحة ببعض الزعماء، لم تتمكن من الإطاحة بالأنظمة، ولكنها ضربت آليات عمل الأنظمة، وأفقدتها القدرة على العمل الروتيني الحياتي الذي يمس حياة محدودي ومتوسطي الدخل، ولم تتمكن في كل الأحوال من الاستيلاء على الأنظمة، أو أن تبني أنظمة جديدة محلها.
وأسوأ من ذلك، أن العطب أصاب الدولة وأجهزتها في أكثر من بلد عربي مر عليه "الربيع"، وأوقف حركة اقتصادها، ووضعها على شفير الهاوية؛ ناهيك عن أن "الربيع" أتى على الجيوش في ليبيا وتونس، وورط الجيش اليمني في صراع أهلي، وأشغل الجيش السوري في عمليات داخلية، ووضع الجيش المصري في صدارة الفعل السياسي، ونقله إلى نقطة الاحتكاك السهلة وغير مأمونة العواقب مع الشعب.
ومثل هذا الواقع تمر به الدول على إثر خسارة الحروب!
الكلفة مرتفعة، إذن، والأرباح لا تذكر؛ ولا يغير غناء بعض القوى المستفيدة شيئاً من فداحة هذا الواقع. وبالتالي، لا مناص من توقع آثاراً سلبية على المدى القريب والمتوسط على أقل تقدير. مع الأخذ بعين الاعتبار أن حالة عدم الاستقرار السياسي والاضطراب الاجتماعي التي تعيشها بعض بلدان "الربيع العربي" لها كلفتها الفادحة أيضاً.
من أسوأ الآثار المتوقعة هو التقسيم الذي تلوح بوادره اليوم في ليبيا، وهذا قد يجر إلى ما هو أسوأ منه: الحرب الأهلية، وهذه غيومها تلوح بالأفق الليبي أيضاً. الخطر نفسه بتداعياته يحدق باليمن رغم المسكّن السياسي الذي يتعاطاه، ويخدر اضطرابه الواسع.
هناك إلى جانب ذلك تعكير صفو العلاقات العربية العربية وإصابتها بمقتل، وهو ما ينعكس على مجمل العمل العربي المشترك ومؤسساته، وهو أمر له تداعياته المؤكدة. ومع انهيار العمل العربي المشترك ومؤسساته، من المتوقع أن يتوزع العالم العربي بمجمله كمناطق نفوذ، وبالتالي سيكون محزنا أن نرى هذه المنظومة تعمل ضد نفسها، ليس كنتيجة للخلافات التي لطالما كانت موجودة، بل على قاعدة العداء المكشوف، لأسباب غير عربية، ولا علاقة لها بتباين المصالح والآراء الداخلية!
في عمق أحداث عام ما سمي "الربيع العربي" شاهدنا عالماً عربياً طائشاً، مستعداً لفعل أول ما يخطر بباله، دون تبصر أو سؤال؛ ورأينا جمهوراً لا يتمهل ولا يتوجل من المساس بنسيجه الوطني، ولا يأبه كثيراً للقيم الوطنية التي تحفظ نقاء حراكه، فرأينا استدعاءً للخارج العربي والأجنبي على حد سواء؛ ورأينا أجزاء من العالم العربي لم تر في ما يجري إلا فرصة للانتقام من آخر عربي؛ وبدرجة ما بدا أن "الربيع" نفسه ليس ثورة شعوب ضد أنظمة، بل ثورة أنظمة عربية على أخرى.
ويمكننا إدارك أخطر النتائج، وأسوأ الآثار المترتبة، حينما نسأل عن ما قدمه وما يمكن أن يقدمه "الربيع العربي" لشعوب البلدان التي مر بها في مجال هدفه الأول الذي كان مبرره الأساسي؛ أعني الحرية والديمقراطية، حيث نجد بالمحصلة نفسها أن ليس هناك دولة من دول "الربيع العربي" حظي شعبها بضمان الحرية والديمقراطية وحكماً مدنياً. بل على العكس من ذلك، فإن "الربيع" نصب على شعوب هذه الدول قوى سياسية بعينها، وأوكل إليها مهمة وضع القوانين الأساسية الناظمة للحياة السياسية، وعلى نحو غير ديمقراطي.
والأسوأ في هذا المجال أيضاً أن الشعوب خسرت في بعض تلك البلدان مكاسب اجتماعية كانت تملكها؛ فليبيا "الربيع العربي"، مثلاً، تراجعت عن كثير من المكاسب التي كان يعتبرها الشعب الليبي حقاً بديهياً لا نقاش فيه، وكان النظام الليبي السابق المترهل يضمنها رغم ديكتاتوريته وترهله.
في السياق نفسه، تم التراجع عن كثير من المكاسب المدنية التي لم تكن موضع سؤال، وتم تعطيل السؤال المدني برمته من خلال توكيل قوى دينية؛ والمعضلة الأساسية أن توكيل هذه القوى لم يأت تسليماً بقوة تمثيلها، بل انطلاقاً من المعرفة المسبقة بتعارضها مع الواقع التاريخي ومع الطموحات المدنية للشعوب التي خرجت إلى الشوارع. الأمر الذي يعني تعطيل "الثورات"، التي لم تنجح القوى المعادية في اصطيادها في لحظتها الأولى (مثلما نجحت في ليبيا)، في مرحلة مؤقتة صعبة وطويلة ومفتوحة على خيارات دموية.
وفي المحصلة، تراجعت شعوب "الربيع العربي" من سؤال البحث عن نظام سياسي اجتماعي جديد وأكثر تطوراً إلى المهمة البديهية البدائية في البحث بكيفية بناء الدولة، وإحياء ثقافة المواطنة، وبناء الوطنية؛ ونعرف أن الثورات تأتي دائماً جاهزة بالإجابات على هذه الأسئلة، بينما الحروب الغاشمة تجتاح الشعوب وتعيدها إلى مستنقع هذه الأسئلة والمهمات البديهية.
لم تكن هذه ثورات، بل كانت حرباً مرت بنا، وأخذتنا على حين غرة!

ليست هناك تعليقات: