الاثنين، 2 مايو 2011

تأجير العقول وتفويض النفوس

في السياسة، كما في الحياة اليومية، تبدأ الأمور بسيطة جداً، وعادية: يتعب المرء أحياناً من متابعة التفاصيل وملاحقتها، سواء كان ذلك في الحياة الخاصة أم العملية؛ فيتكل في حياته الخاصة على أحد أهل بيته أو زوجته. وفي عمله قد يستعين بموظف، أو حتى بمجرد سكرتيرة، للاهتمام نيابة عنه بكل تلك التفاصيل الصغيرة والمزعجة.
إنها حالة نمطية معروفة!

والملفت أن هذه الحالة تتطور، في أغلب الحالات السياسية والاجتماعية على حد سواء، لتضم الأمور الكبيرة إلى التفاصيل والصغائر، ويتحول الإعتماد الجزئي المحدود إلى كلي شامل، ويترافق ذلك مع تلاشي مساءلة المكلفين لصالح تضخم الثقة المفرطة بهم. فيما يتبع ذلك تدني رغبة صاحب الشأن في متابعة شؤونه بنفسه إلى حدود خطيرة، قد تبلغ حتى عدم الرغبة في المتابعة على مستوى العلم بالشيء.

يبدأ الأمر بمجرد استخدام خدمات متاحة؛ ولكنه في حقيقة الأمر استئجار لعقل؛ ومشكلة هذا نوع من استئجار العقول أنه يقود إلى حتماً إلى تأجير العقول. أي تعطيل العقل الخاص ووضعه في حالة اعتماد على عقل آخر، ثم على ضمير ذلك العقل، وسرعان ما ينتهي الأمر بالخضوع لإرادته كذلك.

المشكلة أننا جميعاً، بشكل أو آخر، معرضون للوقوع في هذا المزلق؛ الذي يقود في النهاية إلى التفكير بنحو مشوه، حيث يصبح الإنسان المؤجر لعقله معرضاً لقبول أكثر الأفكار شذوذاً وبعداً عن الواقع؛ فيقتنع بأن أبوه أخطأ بحقه خطأ فادحاً حينما أنجبه، وأن أمه ارتكبت بحقه جريمة شنيعة لأنها رعته، وأن أخوه يسيء إليه لأنه ما يزال أخاً له..!

ولا تلبث هذه الحالة النمطية تتطور حتى تنتج نمط إدارة سياسي من القرون الوسطى، التي يتحول فيها حارس الباب البسيط شأناً وكفاءة إلى حاجب بجاه وسلطة، فيقرر من يدخل على الحاكم ومن لا يدخل، ومن يقابل الحاكم ومن لا يقابل، فتصطف حاشية الحاكم وخاصته بباب الحاجب طالبين عطفه ورضاه، بعد أن كانوا زينة مجلس الحاكم وأهل مشورته. ومع الوقت، تتحول وظيفة الحاجب إلى منصب سياسي، فيصبح صاحب الرأي والمشورة الوحيد، وصانع القرار الأول، فيما يتضاءل دور الحاكم نفسه، إلى أن بفقد ولايته على أمره، ويتحول إلى مجرد خاتم يمهر به الحاجب متى أراد ما شاء واتخذ من قرارات.

وإذ تبدأ الأمور عادة، بإرادة عليا تلجأ إلى الاعتماد على إرادة دنيا، في شؤون صغيرة، وبعقل أعلى يعتمد على عقل أدنى في مسائل قليلة وبسيطة؛ إلا أن الأمر سرعان ما ينتهي بالتحول من الشؤون الصغيرة إلى الكبيرة، ومن المسائل القليلة والبسيطة إلى الكبيرة والعظيمة؛ فينقلب حال الكبير من القيادة إلى التبعية، والقوي من الإرادة إلى الانقياد، وتصبح الإرادة العليا مقيدة بمشيئة الإرادة الدنيا، فيما يصبح العقل الأعلى موجهاً من قبل العقل الأدنى!

وإذا كان المرء (أو الحاكم) قد نشد الراحة في لجوئه إلى تأجير عقله، فإن ذلك لن يكفلها له، إذ سرعان ما يجد نفسه منشغلاً في الدفاع عن حاجبه ودوره وأدائه، قبل أن يجد نفسه مضطراً لدفع ثمن السخط الذي يستثيره هذا لدى عامة الناس. وهنا، يتحول اتجاه الثقة، كذلك، فحيث كان دافع الحاكم لتفويض حاجبه ما رأى منه من ولاء له، فإن الأمر لا يطول به حتى يكتشف أنه هو من أصبح يدين بالولاء لحاجبه، لا العكس. وقد يتأخر الحال، كما تحدثنا مرويات التاريخ والحياة، إلى أن يتمكن الحاجب من سيده، فيجد الأخير نفسه مضطراً لتقديم فروض الطاعة لحاجبه علناً وصراحة!

هذا الحديث، البعيد في ظاهره عن السياسة، يقربنا منها ومما شهدناه حتى الأمس القريب في عالمنا العربي، الذي تطابقت في أغلبه أنماط تعامل أنظمة الحكم، رغم اختلافها وتباينها، مع الثورات الشعبية، حتى بدا أنها تنفذ في ذلك السيناريو نفسه.

والواقع، أن أخطر ما يكون تأجير العقول وتفويض النفوس في هذا المستوى، فالتشابه في التعامل مع الثورات العربية مرده إلى أن أنظمة الحكم تلك، في أغلبها، تعيش ذات الحالة، حيث تؤجر النخبة في قمة الحكم عقلها وتفوض نفوسها لـ"الأمن"، فتتعاطى مع مختلف الأحداث من ذات المنظور "الأمني"، فترى في الأحداث مؤامرة و"أجندة" خارجية مشبوهة؛ وهذا ما حصل مع أغلب الأنظمة العربية التي استوعبت الثورات في بلدانها بالطريقة والرواية والخلاصات الجاهزة التي أملاها "الأمن"، ففوضت أجهزته بالتعامل مع ملف سياسي بامتياز.

إن التمعن بتاريخ هذه الأنظمة، يشير كذلك، إلى أن تلك النخبة في قمة الحكم كانت كذلك تحب وتكره، وتقرب وتبعد، من الأفراد والفئات ما تراه الأجهزة الأمنية ذاتها.. فجمعت تلك النخبة بذلك تأجير العقول إلى تفويض النفوس.

والملاحظ، هنا، أنه بالرغم من أن "تأجير العقول وتفويض النفوس" أدى إلى انفجار الشارع في وجه هذه الأنظمة وقاد إلى المطالبة بالإصلاح، إلا أن تلك الأنظمة، التي فقدت إرادتها وقرارها بتأجير نخبتها لعقلها، لم تستطع استعادة إرادتها وعقلها، واضطرت إلى التعامل مع الواقع المتفجر من خلال من أجرته عقلها. وكانت النتائج بليغة في تونس ومصر، ومدمرة في اليمن وليبيا وسوريا.
ومن الملفت كذلك، في الحالة العربية، أنه حينما يؤجر المسؤول عقله، يكتشف بعد حين أنه أجر عقله لأقل الناس جدارة، واستحقاقاً للثقة، وأدناهم كفاءة، وأكثرهم افتقاراً للنزاهة؛ إذ لم يحدث أبداً أن أجر أحد عقله لأحدٍ أفضل من ذلك؛ فمن هم أفضل من ذلك، لا يؤجرون عقولهم، ولا يستأجرون عقول الآخرين، ولا يقرون فكرة تأجير العقول أساساً!

ومأساة المسؤول العربي، هنا، أن كل عقل يحمل شخصية صاحبه، بالضرورة؛ فالفارس الذي يؤجر عقله لسائس خيل، يجد نفسه وقد تحول إلى مجرد سائس، والذكي الذي يؤجر عقله لشخص لا يماثله في ذكائه، سرعان ما يكتشف أن لدى الناس أسباباً وجيهة للشك في ذكائه، ومن يؤجر عقله لشخص يفتقر للنزاهة يكتشف عاجلاً أنه فقد ثقة أقرب الناس إليه؛ وأنه بالتالي، لم يعد في نظر الناس أهل السياسة، بل رجل أمن.. وهذا ما يفسر عدم قبول الشعوب خطاب "فهمتكم" الشهير الذي تكرر في أكثر من بلد عربي.

تقول الحكمة القديمة: "من لا يُتعب عقلَه، أتعبه عقلُه"؛ ومن يتعبه عقلُه حاد به عن جادة الصواب وأفقده سلامة المسلك والتفكير، وقبل ذلك وبعده فإن هذا يتسبب بخسارته لشخصيته ونفسه!

ليست هناك تعليقات: