الاثنين، 2 مايو 2011

حساب على الفيسبوك

لم تعد "الحساب" مفردة مصرفية خاصة؛ فأنا، مثلاً، لدي "حساب" على الفيسبوك وآخر على "الياهو" وثالث على "الهوتميل" وغيرها. وبالمقابل، ليس لدي سوى حساب بنكي واحد. لا يخطر ببالي اللجوء إلى استخدامه بصفة يومية، ولا هو يسعفني إن فعلت. ولكني بالمقابل ألجأ يومياً لكل حساباتي الإلكترونية، وأحب أن أفعل ذلك.

ومن الملاحظ أن "الحسابات" الالكترونية، التي تحولت إلى منابر للتعبير، أضحت منصات إعلامية بديلة تدعم طموحات التغيير، في مجتمعاتنا التي تكلست، وتحول الاستقرار فيها إلى جمود، وبات الشعب فيها مجرد رعية، وتغول "الأمن" فيها على السياسة. واستحال فيها الإعلام الورقي إلى ورق إعلامي.

ومن هنا، فإننا نرى اليوم أن الصحافة الورقية في العالم العربي تعاني الأمرين؛ فتحالفها التقليدي مع المؤسسة الرسمية، وخضوعها لسياسات وضوابط "وزارات الإعلام" (بكل أنواعها وأصنافها) انتهى بها من حمل رسالة إعلامية إلى التحول إلى أداة توجيه مسكونة بالهاجس الأمني؛ ما أفرغها من ميزاتها، وجردها من سلطتها التي كانت يوماً ما رابعة؛ فتحولت إلى منشور رسمي، يفتقر إلى المصداقية، وغير قادر على استيعاب الحراك الاجتماعي الكبير، الذي تشهده بلداننا.

ووفق ما يرى كثير من ممثلي الصحافة الورقية، فإنها فقدت ميزاتها أمام المستجدات التي يعيشها العالم العربي، بعدما انهارت دفاعاتها أمام فيض الفضائيات والإعلام التلفزيوني المفتوح، وزحف المواقع الالكترونية واجتياحها للأرض الإعلامية، وعدم استيعابها للدخول السريع لتقنيات الإعلام الجديد، وأخيراً فقدانها لزمام المبادرة إزاء ما يسمى بإعلام التواصل الاجتماعي.
 
ومن الملاحظ أن الصحافة الورقية، لا تزال معنية لوحدها من بين كل صنوف الإعلام الحديثة بالقوانين المنظمة للنشر؛ فهي تعاني في استخراج التراخيص، وتعيش تحت وطأة أدق تفاصيل القانون، ما يحرمها من إيجاد هامش حرية يكسبها المصداقية؛ وبينما تفشل جراء ما تواجه من قيود في المعركة التي تخوضها بالنيابة عن وزارات الإعلام، فإن هذه الأخيرة لا تفكر بالتخلي عن القيود التي تفرضها عليها. هذا في حين أن الوسائل الإعلامية الحديثة، تملأ الفضاء الإعلامي، دون حاجة لترخيص، أو احتكام لقانون، أو استجداء لهامش حرية.

الفارق الأساسي بين الإعلام الورقي وصنوف الإعلام المنافسة الأخرى، واضح للعيان: الأول متحالف مع المؤسسة الرسمية، والثاني مع المجتمع. علماً أن شروط التحالف مع الأولى تكرس حالة من السيطرة والتبعية التي تنتج الجمود، بينما شروط التحالف مع الثاني تؤسس لمرونة تتحرك في فضاء حر.

إن خسارة الإعلام الورقي للمعارك الكبرى، مثل: المصداقية، والحرية، وبالتالي المهنية، يضر بفرصها في كسب معاركها اللاحقة، ومنها المعركة الأكثر حيوية: معركة الإعلان الذي يبقيها على قيد الحياة، فمن الواضح أن هذه المعركة باتت منظورة ووشيكة، وتتحدد نتائجها بمعطيات الواقع الذي نشهد فيه تقدم الإعلام الحديث المطرد في قائمة أولويات المعلن، مقابل موقع تراجع الإعلام الورقي في هذه القائمة.

لقد خسر الإعلام الورقي في محاولة استجابته لشروط تحالفه مع الدولة، وفي خضم دخول وسائل الإعلام الحديثة، شريحة المثقفين، الذين يتحولون في ما يشبه النزيف بالنسبة للصحافة الورقية إلى الإعلام الحديث، أقلاماً وقراء. ولم يعد من النادر أن يتحول المثقف إلى "حساب" في "فيس بوك" أو "تويتر"، أو مدونة حرة، أو مساحة إليكترونية خارج نطاق سيطرة وزارات الإعلام.

وهذا الحال، طال حتى الإعلام الورقي نفسه، الذي بات يحرص على أن يطل من خلال الحسابات الإليكترونية، في صفحات خاصة على "فيس بوك" و"تويتر"، ومن خلال مواقع اليكترونية ثبت أنها قادرة على منافسة صحيفتها الأم، وهزيمتها في معركة القراءة والانتشار.

وهنا، يغدو "الحساب" أكثر من مفردة تشير إلى المساحة الخاصة، سواء كانت مصرفية أو الكترونية، وتكتسب معنى يتعلق بمراجعة المعطيات وقياس قيمتها، ومفاضلة الأرباح والخسائر، في الصحافة وعلاقتها بالدولة الراعية، وفي المجتمع بتطلعاته إلى كسر الجمود الذي يكتنف الحياة ويؤجل الحقوق.

ومهما يكن من أمر، فإن مفردة "حساب" تبقى الأكثر احتمالا للتداول والشيوع، بمعانيها القديمة والجديدة، الأصلية والمكتسبة، وستحكم حياتنا، سواء في تعاملنا مع التقنية والإعلام أو في حراكنا الاجتماعي.

ومن المؤكد أن هذه المفردة السحرية ستبقى ذات دلالة أزلية، حيث يقال "يوم الحساب"، بعضهم يصر ويعمل على أن يكون حتمية دنيوية، تتحقق على الأرض، وبعضهم يكله إلى العلي القدير، ولا يرى بأساً من الصبر إلى أن يحل عظيماً في الآخرة.

والمعنى، أن الجميع يستطيعون التخلي عن حساباتهم والتنصل منها، سواء البنكية أو تلك التي على "الفيسبوك" أو "تويتر" وغيره؛ غير أن أحداً لا يستطيع أن يتنصل أو يتخلى عن "يوم الحساب العظيم"، في الدنيا أو الآخرة..

وإلى ذلك وذاك الحين، نكتفي بمجرد "حساب" على "الفيسبوك"!

ليست هناك تعليقات: