الثلاثاء، 3 مايو 2011

توت عنخ آمون

ذات يوم كنت شاباً، تحركني الموسيقى، وتهيِّج روحي الأفكار، وتثير عقلي الكلمات. وكانت لي قصيدة مفضلة، وصديقة مقربة، وعادات سيئة أجاهر بها، وسجايا طيبة أخجل منها..
كانت لي أغنية..

لم أشخ بعد، ولكنني كذلك بالتأكيد، بالنسبة للقادة والمناضلين الجدد القادمين إلى حقول الثورة مدججين بوظائفهم "الرسمية" في "القنوات" العربية الرسمية، الذين أصبحوا فجأة بأموال النفط قادة الطليعة الثورية وأنبيائها، يوزعون البركات والصفات الثورية وبرامج التغيير الجذرية، ويتصرفون بالحقيقة بوجل أقل مما يستوجب التصرف بدفتر شيكاتهم الخاص.

وكانت لي أغنية..

إن أسوأ ما التبس علينا هو فرحة هذا الإعلام الرسمي العربي، الذي سوق علينا حيدته وموضوعيته وانحيازه للشعوب والحرية (وأنسانا انه ما يزال رسمياً) لمجرد أنه فضائي، وزاد في إيهامنا حينما شاركنا فرحتنا بالثورات العربية؛ ولكن أسوأ خدعة هي تلك التي سوقها على مموليه وأرباب نعمته بأنه صنع أحداثاً، وقاد معاركاً، ووجه جموعاً ثائرة، وقاد ثورات..

ويبدو أنه نجح في هذا لدرجة أن ذلك زاد من حماس "الأرباب"، وأقنعهم بأنهم قادرون على تحقيق ما لم يستطع بيريز تحقيقه: شرق أوسط جديد على مقاسهم، ووفق أهوائهم، ويخدم صراعاتهم البينية، في ممالك تحاول أن تروي ظمأها بمال النفط، فزاد العطاء، وزاد معه تصديق الكاذبين لكذبهم، وإيمانهم بمستقبلهم الذي يبرق..

وكانت لي أغنية..

كنت أسمعها كل حين:
"إذا نادمت اللصوص فلن تملك إلا أن تتفقد محفظتك. وإذا سرت في درب موحل، فلن تنج قدماك من الوحل. وإن أهملت شعرك فلن تستطيع تصفيفه مجدداً إلى الوراء، وسيسقط رأسك دائما إلى حيث يجب أن يكون قفاك".

يتساوى الرأس بالقفا، في عار قد يقبله عامة الناس دون وعي، وعامة الثوريين في غفلة من أمرهم، ولكنه لن يمر على قلب محروق بالثمن الباهظ المدفوع (لا المقبوض)، ولن يقبله عامة الناس عن وعي!

وكانت لي أغنية..
الحقيقة دائماً واحدة. هذا ما قاله فرعون.
كان رجلاً حكيما؛
ولذلك أسموه توت أنخ آمون..!

كانت دائماً واضحة وأزلية، راسخة وحاضرة في عز غيابها. والإيمان والثقة بسطوتها وحتمية شروقها، كان كافياً للمغامرة بالحياة ذاتها. ولكن ثلة اكتشفت أن شيئاً لا يسبق الدفع ولا يؤثر عليه فإنه لا يكون موجوداً، وهي (الثلة) التي كانت تشكك بسلامة ورجاحة عقل كل من عاند لأجل الحقيقة والعدالة، وتصمهم بـ"اللاواقعية" والعيش في المثل في عالم لا يعرف إلا المال وسطوة أصحاب الألقاب، فكانوا على الشاشات قريبين من المواطن، وفي الولائم على مائدة أصحاب الألقاب، وليس لديهم متسع من الوقت يضيعونه مع "أصحاب المبادئ"..

كانت لي أغنية..

"لقد عرفت هذه المرأة وكانت وحيدة دائماً.
لقد عرفت هذه المرأة وكانت دائماً تطل من النافذة. في بيتها عشرة آلاف باب، إلا أنها كانت دائما تتركها جميعاً وتخرج من النافذة؛ سقطت فتحطمت ميتة، وما كانت لتأبه بذلك".

وهؤلاء، اليوم، الذين يطالبوننا بأن نخرج من أيٍ من العشرة آلاف باب خاطئ، هم ذاتهم الذين كانوا يصرون على أن نترك هذا العدد نفسه من الأبواب الصحيحة لنخرج من نافذة وحيدة خاطئة..!

مناضلون أدنى من مستوى سؤال التعس القذافي وسؤاله البائس: من أنتم..!؟ من أين ظهرتم..!؟

ظهروا من العدم واللامبالاة واللاموقف، ليتحفونا بمواكبة المواقف الأمريكية، ومغازلة المواقف الرسمية؛ ويريدون أن يحولوننا إلى شاهد عيان ملثم يقف أمام كاميراتهم لنقول أن الرمثا امتلأت بالسوريين القتلى والجرحى والهاربين من البطش، وأن الدبابات تدخل البيوت، والنساء تغتصب، والحرمات تنتهك، وباختصار يريدوننا أن نقف على ذات المنبر مع ثلة من الوهابيين الملتحين الذين توظفهم الأوقاف السعودية كعلماء دين، نكفر النظام السوري بفتاوي علمانية..!

ولكن.. لن يضطرنا أحد إلى التورط بمأزق الحقد "الاعتدالي" على سوريا، وهو ليس حقدا على الأسد تحديداً، أو نظامه؛ بل يحقدون عليه لأنهم يعرفون أنه في كل ما اتخذ من مواقف أخرجته من معسكر الاعتدال لم يكن إلا سورياً حقيقياً، وهذا ما يكرهه كارهو الإرث السوري في المنطقة، جميعاً..

بلى، هم يتوعدون الأسد، ولكنهم في حقيقة الأمر يستهدفون سوريا..!

وكانت لي أغنية..

-        لا أفهم كيف يتحمس نفس الشخص لسقوط مبارك والأسد، في الوقت عينه!
-        لا أفهم كيف يتورط شخص في الحماسة لإسقاط دولة من "محور الشر" إلى جانب دول الاعتدال العربي!
-        لا أعرف كيف لعقل أن يساوي بين عار الاعتدال وشرف أن تكون معزولاً دوليا، في مثل كل الفترة الماضية!
-        ولا أفهم كيف تتم مهاجمة سوريا باسم السنة، وينعت نظامها بالطائفي و"العلوي"، في حين أن حواضر السنة (دمشق وحلب) هادئة، بينما المناطق "الثائرة" مختلطة، وفيها حضورٌ علوي مميز!
-        ولا أفهم كيف لا يلاحظ هؤلاء أن تمركز "الثورة" في درعا، يحمل إشارات قوية محرجة، وربما مخزية، تجاه فلول معسكر الاعتدال!
-        ولا أفهم كيف لا يلاحظ هؤلاء أن العقدة مع الأسد، بالنسبة للولايات المتحدة والقسم الفاعل من "المعارضة" السورية، باتت تتركز في شروط لا علاقة لها بالديمقراطية والشعب وحقوقه المدنية، وإصلاح النظام السياسي.

وكانت لي أغنية..

"لو كنتَ عرفت هذه المرأة، لما كنت نادمتَ اللصوص. ولما كنت تمرغتَ بالوحل، ولا مضيتَ مختالاً تبعثر شعرك".

وتعني الأغنية، هنا، بالمرأة الحقيقة نفسها. بالطبع من الصعب أن نحدس بذلك لأن النص مترجم، ولأن "الحقيقة" -كما يبدو لي-  بالأساس ليست مقولة ولا مفردة عربية، لذا نغفل عنها كثيراً، وخصوصاً في نص مترجم.

وأتذكر الآن أنني كنت ذات يوم أؤمن:

"الحقيقة دائماً واحدة".

وذات هذا اليوم، حينما أسأل عن الحقيقة يشيرون عليّ بالتوجه إلى الهايبر سوبر ماركت، مؤكدين أن هناك أصنافاً وأنواعاً منها، بأحجام وأشكال مختلفة؛ لذا أحب أن أضيف، فأقول: من المحزن أن هذا الرئيس الذي أعجبنا بخطبه في مؤتمرات القمة، وبمواقفه في اللحظات المفصلية، وبشعورنا أنه من أبناء جيلنا، يقف في الصف ذاته إلى جانب بقية الطغاة العرب المخلوعين ومن ينتظرون الخلع، في تغليبه للحل الأمني في معالجة الأزمات الاجتماعية والسياسية، وتسليمه في الظروف العادية ملف الداخل للأمن.

لنا في سوريا أصدقاء أدباء وفنانون ومثقفون طفح بهم الكيل من ممارسات النظام، منذ وقت طويل، ونحن ظمآنون لمجاملتهم بكلمة بحق النظام، ولكننا لا نقولها، لأننا لا ندوس على ضمائرنا. ولكننا نقول للرئيس الذي ملأهم بالخذلان من حصيلة عشر سنوات من وعود الإصلاح التي قطعها: إنه لمن المحزن أن نشاهدك اليوم تفقد بلاغتك ومنطقك، فتحاول إقناعنا بأن نشاهد المؤامرة حصراً، دون خيبة الأمل التي يعيشها السوريون منذ عقود. وإنه لمن المحزن، ومما يثقل على النفس الدفاع عنك على غير رغبة ورضى من نعرف من شرفاء وأنقياء سوريا، الذين لم يصل وجودهم إلى علمك، كما وصل لعلم الأجهزة التي اضطهدتهم!

وكانت لي أغنية..

تعيدني إلى شبابي المبكر، وتحركني بموسيقاها، وتهيِّج روحي بأفكارها، وتثير عقلي بكلماتها:

الحقيقة دائماً واحدة. هذا ما قاله فرعون.
كان رجلاً حكيما؛
ولذلك أسموه توت أنخ آمون..!

وتذكرني بعاداتي السيئة التي كنت أجاهر بها، وبسجاياي الطيبة التي كنت أخجل منها؛ فيريحني أن أرى البعض يحاول استعراض طيبته، ولكنه في الأثناء ومن حيث لا يدري يكشف عن سوء نفسه!

ليست هناك تعليقات: