الأحد، 15 يناير 2012

لافروف.. الحرب والسلام


يستطيع خصوم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الأكثر تشدداً منه، أن يتعاملوا معه بازدراء بوصفه مجرد "دبلوماسي"، أو "سياسي مريض بالدبلوماسية"، ولكنهم سيكونون محقين ومخطئين بنفس الوقت.
سيكونون محقين بالإشارة إلى مهنته الدبلوماسية كمكون أساسي في رؤيته السياسية، وفي استراتيجيته الخاصة بإدارة السياسة الخارجية الروسية. بينما يخطئون حينما يحاولون القول أن ذلك يقيد نظرته وعمله.
والطريف في الأمر، أن لافروف يجد متسعاً للدبلوماسية في الاستراتيجيات الخاصة بالسياسة الخارجية الروسية، ليس من باب أن الدبلوماسية واحدة من الأدوات التقليدية للسيطرة على الصراعات وإدارة العلاقات الخارجية، ولكن تحديداً من منطلق القناعة (الخاصة) بمفاعيل حتميات يؤكد عليها منتقدوه من اليساريين الروس: وراء غطرسة الدول الغربية تكمن أزمة الرأسمالية العالمية!
يرى لافروف، كما يشير في واحدة من مداخلاته، أن الحديث عن التنمية المستدامة من خلال الاعتماد على أفكار الليبرالية الرأسمالية مستحيل تماماً. وهو يعزو إلى النظام الرأسمالي العالمي، الذي تقف في طليعته الولايات المتحدة والدول الغربية وتحول مدفوعاً بحكم مفاعيل أزمته الداخلية نحو سياسات متوحشة، كل ما يعيشه العالم من مواجهات ساخنة ودموية؛ ويرى أن الغرب الرأسمالي الذي بلغ هذه النقطة لن يتراجع عنها إلا مهزوماً؛ وهو بحسب ما يرى يتراجع بالفعل، ليس انطلاقاً من رغبة واعية في ترشيد الأداء والفاعلية، ولكن تحت ضغط الفشل ومخاطر الانهيار.
وهنا، لافروف لا يشعر بالراحة قدر ما ينتابه شعور بالخطر، فالدبلوماسي الذي خدم السياسة طويلاً و"السياسي المريض بالدبلوماسية" لا يمكنه أن يتحول في ساعة إلى ثوري فيرتاح لتسلم التاريخ زمام المبادرة، ليتم مهام التغيير على طريقته العاصفة، ولا هو ينشد تغييراً شاملاً يأتي على "النظام العالمي" برمته..!
وللدقة، فإن ملاحظات لافروف على الرأسمالية هي بالتحديد ملاحظات سياسي، يمثل واحدة من الدول الرأسمالية الجديدة الصاعدة، ويوجهها إلى "نظام عالمي" تسيطر عليه المراكز الرأسمالية الغربية التقليدية، التي ترفض إعادة صياغة هذا "النظام" والتشارك مع الدول الصاعدة في إعادة صياغته وقيادته. ومن هنا، فإن انتقاداته تذهب باتجاه رأسمالية المراكز الغربية التقليدية، والإلحاح على "نظام عالمي" جديد تتصدره مراكز جديدة نشأت في الشرق وخارج المنظومة الغربية.
ويقلق لافروف هنا، إذ يرى أن النموذج الذي بلغته المراكز الغربية التقليدية يدفعها إلى محاولة استعادة الأنماط العدوانية المباشرة، وتسبب في عجز النظام الرأسمالي عن إدارة علاقات سلمية، وتجعله غير صالح لإدارة العلاقات الدولية، بل وتحوله إلى نمط خطر على السلم العالمي. وفي السياق، فإن هذه العدوانية التي تعيش تحت ضغط العجز والفشل قد تحاول أن تستمد طاقة جديدة من مواجهات "محسوبة" في الساحات الخلفية، ولكن هذا لن يعفيها من القلق الذي يبعثه فيها نشوء تلك المراكز الرأسمالية خارج المنظومة الغربية، كما لن يعفي هذه "المراكز الجديدة" من القلق حول احتمالات المواجهة وأشكالها المتوقعة.
لذا، فهو يقترح المواجهة السياسية، التي تضع حداً لفرص تطبيق الأنماط العدوانية المباشرة، والمشاغلة الدبلوماسية التي لا تقتل القتيل، ولكن تترك له الفرصة لأن ينهار بحكم الواقع. وهنا، يمكن أن نلاحظ في مشاغل رئيس الدبلوماسية الروسية بضعة اهتمامات مركزها:
  • الحقائق الكبيرة حول الإقتصادات الجديدة، التي هي على أقل تقدير تجعل من المستحيل الحفاظ على الرأسمالية العالمية بهويتها الغربية، طالما انها تكسر احتكار الدول الغربية للمركز الراسمالي.
  • بروز الدول الإقليمية، كقوى فاعلة سياسياً واقتصادياً، وتتمتع بالحصانة العسكرية، وتمحورها في أنماط من التعاون الذي يصب بالنهاية في خانة توسيع نطاق الفعالية الاقتصادية والسياسية لهذه الدول على حساب فعالية المراكز الغربية وصدارتها الدولية. والحديث هنا يدور حول إنهيار المفهوم التقليدي "العاجز" لما يسمى بـ"العالم الثالث".
  • الحقائق السياسية الجديدة (لم تكن "الأحداث العربية" في البال) في قائمة طويلة من الدول الصغيرة، التي كانت تدور ذاتياً في الفلك الغربي – الأمريكي، وتحطم آليات السيطرة الجمعية الأمريكية على هذه الدول، بحيث باتت استمالة كل واحدة منها تتطلب جهداً خاصاً ومستقلاً، وبالتالي مكلفاً. وهنا، حديث عن بدء إنفراط عقد "الهيمنة" وتآكل فعالية أدواتها.
وللدقة، أيضاً، فإن لافروف لا يعول على انهيار الرأسمالية العالمية، ولكنه يرى في داخلها بروز منظومات جديدة تهدد مكانة مركزها الغربي التقليدي، وهذه بالذات عملية تتسم بالهمية والحسم، كونها لا تسير بالبطء التاريخي، وتتحقق بسرعة الإصطفاف السياسي، المدفوع بنشوء مصالح جديدة وقوية ومنافسة على الأطراف، تمتلك زخماً صراعي الطابع.
وبمعنى آخر، فإن ثمة معادلات دولية جديدة ناشئة، وقيد النشوء، وهي لا تجد ترجمتها للآن على أرض الواقع، ليس لأنها غير فاعلة، بل لأن ثمة قوة سياسية وعسكرية (هيمنة) تعيق أخذها بعين الإعتبار؛ ولكن من المستحيل على هذه "الهيمنة" بالمقابل الاستمرار بتجاهل هذه المعادلات، سلمياً. وعلى الأرجح فإن الرغبة في الاستمرار بذلك ستقود إلى محاولة إلغاء هذه المعادلات بالإستعانة بالجيوش.
في هذا السياق، يقر لافروف بصعوبة الحفاظ على نمط المواجهة السلمية بين الإقتصادات الجديدة التي تستند إلى التنمية والموارد المادية والبشرية، واقتصاد المديونيات التي تحميها الجيوش. ولكنه يشدد على ضرورة أن تبقى هذه المواجهة سياسية بدرجة ما، دبلوماسية بدرجة أكبر، على أن الأمر الحاسم والأساسي يكمن في بناء منظومات بديلة وموازية للمركز الرأسمالي الغربي وقادرة على مزاحمته؛ فالمواجهة السياسية لا تشكل بذاتها ضمانة، فقد تصل إلى جدار مسدود أمام استعداد عدواني لا عقلاني.
وهو ينبه، إن كان في هذا العالم ثمة من يخوض صراعاً للدفاع عن مصالحه، فإن الغرب يطمح لمواجهة يتحاشى من خلالها نهاية مكانته وأفضليته في قمة النظام الرأسمالي العالمي. أي أنه يدافع عن وجوده كـ"غرب"..!
والدفاع عن "الوجود" أكثر شراسة من الدفاع عن المصالح!

ليست هناك تعليقات: