الجمعة، 13 يناير 2012

لافروف.. الروسي العنيد


الشيء الذي تجب معرفته حول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف هو أنه صاحب "خدمة طويلة"؛ فقد عرف عنه أنه لا يستلم موقعاً بشكل مؤقت، أو ليغادره بعد مدة قصيرة. 
السِجل الوظيفي لـ لافروف في كل موقع يتراوح ما بين ثمان وعشر سنوات. وحتى فترات عمله الأقصر، في بدايات مهنته، لم تكن قصيرة بالفعل، إذ شغل وظيفتين: الأولى في السفارة السوفيتية بسيريلانكا لمدة أربع سنوات، والثانية بوزارة الخارجية سكرتيراً ثان ثم أول لقسم المنظمات الإقتصادية الدولية لمدة ست سنوات.
وهذا يؤشر على أمرين: الأول، أنه لم يكن يوماً خياراً طارئاً بالنسبة لمن يرشحه، وأنه ينأى بنفسه عن الاصطفافات والمغامرات الشخصية في مجال الوظيفة السياسية، ويتضح هذا من عزوفه عن قبول مناصب وزارية تم ترشيحه لها في عهد الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن، ومنها وزارة الخارجية ووزارة التجارة والعلاقات الاقتصادية الخارجية.
والثاني، أنه في عمله ينتزع لنفسه نوعاً من التفويض الواسع، والولاية الكبيرة على موقعه؛ وهو ينجح اليوم في استعادة ولاية وزارة الخارجية على السياسة الخارجية الروسية، بعد نحو أكثر من عقد ونصف تحولت فيها الوزارة من واضع سياسات في العهد السوفيتي إلى مجرد جهاز لتنفيذ أفكار سياسية مرتجلة يمليها جورباتشوف والنخبة الضيقة من المنهارين السياسيين الذين أحاطوا به، ثم يلتسن وحاشيته الضيقة من أباطرة الطغمة المالية التي شاركته الحكم.
يؤخذ على الرجل أنه مريض بالدبلوماسية، فهو يلاحق المباحثات والمفاوضات والمشاورات إلى نهاية النهايات، بالرغم من أنه يمكن أن يصفها لرؤسائه بـ"غير المجدية" أو "بلا أفق" أو بغير ذلك من الأوصاف المماثلة، التي تؤكد أنه لا يعلق عليها أية آمال. وليس في هذا عدمية ما، ولكنه يرى أن "الأطماع الجشعة" لدى الآخرين تتيح المجال لـ"المشاغلة الدبلوماسية".
ويؤخذ على الرجل، من جهة أخرى، أنه غضوب، ولا يتورع عن اظهار حدة الطبع، ويستطيع أن يكون فظاً فيخوض حربا على طاولة المفاوضات إن استدعى الأمر ذلك. وهو على ما يعلق البعض صاحب وجه معذب لا يتعاطى الابتسام أمام الكاميرا، ويرتاح للتجهم. فيما يرى آخرون في لحظات فظاظته، نزق قوة عظمى تعيش في وجدان الرجل، وتجد صعوبة في التعايش مع أولوان التكاذب الدبلوماسي، التي أضحت اليوم واحداً من فنون الإحتيال على حقائق القوة والواقع. 
وهو هنا يذكر بخلف شهير، هو عميد الدبلوماسية السوفيتية اندريه جروميكو، الذي روج الغرب عنه مقولة أنه "لا يضحك حتى للرغيف الساخن" ولقبه بـ"مستر نييت"، أي "السيد لا"؛ ومن المعروف أن هذا الأخير تمت تنحيته عن وزارة الخارجية بعد ثلاثة عقود من إدارتها وهيمنتها على السياسة الخارجية السوفيتية من قبل جورباتشوف، الذي وصفته مارجريت تاتشر يوماً ما بـ"صاحب ابتسامة ساحرة تخفي أنياباً قاطعة"..!
وقد يكون من المفيد هنا، تذكر سيرة عميد الدبلوماسية السوفيتية اندريه جروميكو، فقد بدأ حياته المهنية شاباً في العشرينات رئيسا لقسم البلدان الأمريكية في "الخارجية"، ثم مستشارا في سفارة الاتحاد السوفيتي في الولايات المتحدة. وترأس وهو في الرابعة والثلاثين البعثة الدبلوماسية السوفيتية بواشنطن، وشارك بهذه الصفة في إعداد وعقد مؤتمرات يالطا وبوتسدام ودومبرتون- اوكس وسان فرانسيسكو، التي شكلت النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. وأصبح في العام 1946 أول مندوب للاتحاد السوفيتي في هيئة الأمم المتحدة، ثم تم تعينه على رأس وزارة الخارجية في العام 1957.
وفي المقابل، فإن سيرة لافروف، خريج معهد العلاقات الخارجية التابع للوزارة عام 1972، الذي تخصص في الثقافات الشرقية، ارتبطت بالمرابطة على خط المواجهة مع الأمريكيين في الأمم المتحدة منذ أواخر السبعينات، حيث عمل مساعدا ومساعداً أول للمندوب السوفييتي في الأمم المتحدة طوال الثمانينات، ثم مندوبا دائماً لروسيا في نفس المنظمة لمدة عشر سنوات حتى 2004.
ومن اللافت أنه قد تمت إعادة لافروف إلى "المركز" من عمله كنائب أول للمندوب السوفيتي الدائم في الأمم المتحدة في أواخر الثمانينات، في نفس العام (1988) الذي تمت فيه الإطاحة بالوزير المخضرم اندريه جروميكو عن "الوزارة"، بعد تسجيله مواقف نقدية من تنازلات فريق جورباتشوف في السياسة الخارجية.
ومن اللافت كذلك أن لافروف، صاحب "الخدمة الطويلة" والمهنة المستقرة حتى في بدايات حياته المهنية، عانى في تلك الفترة من عدم الاستقرار الوظيفي، وتفاقمت معاناته هذه خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وما تبعه من تداعيات وفوضى ولاءات، في حين أن إعادته إلى نيويورك مندوباً دائماً لروسيا في الأمم المتحدة تزامنت مع بروز صراع تيارات في "الخارجية الروسية". وقيل إن ذلك جاء برغبة مباشرة من وزير خارجية يلتسن، ذي الميول الغربية اندريه كوزيرف، بهدف إبعاده عن الوزارة في سياق التخلص من مراكز القوى المناوئة.
لقد كان اللقب الغربي لجروميكو "السيد نييت"، ويشكك جروميكو بمصداقية هذا اللقب، فيقول أنه سمع من الغرب "نو" أكثر مما سمعوا منه الـ"نييت"، مشيراً إلى انهم كانوا يقترحون شيئاً يرفضه، ولكنه بالمقابل كان يقترح الكثير من المقاربات التي يرفضونها؛ أما لافروف فرغم أصوله الأرمنية المباشرة، فقد تم تكريسه كـ"أول" وزير خارجية روسي عنيد، تماما كما تم تكريس بوتين كـ"أول" رئيس روسي حديدي..!

ليست هناك تعليقات: