الجمعة، 13 يناير 2012

لافروف.. وجه معذب


بدأ لافروف يظهر على نطاق واسع في الإعلام حينما تم تعيينه أواسط التسعينات مندوباً دائماً في الأمم المتحدة لروسيا - نظام يلتسن الذي كان سلم كل أوراقه للأمريكان؛ وكان متوقعاً من المندوب الروسي أن يكون صدى لهذا النظام، ونسخة أكثر ليونه من وزير خارجيته، حينها، أندريه كوزيروف.
لم يكن الأمريكيون يتخيلون أن يكون المندوب الروسي الجديد في الأمم المتحدة، الذي أريد له أن يكون مجرد "منسق" يضبط الأداء الروسي في الأمم المتحدة على إيقاع "الزفة" الأمريكية، "متعنتاً" لا يتجنب المواجهة، وعنيداً لا يحاول تحاشي الخصومة.
حقق لافروف في ذلك الوقت شهرة في أروقة الأمم المتحدة، وفي الإعلام الروسي والغربي؛ وبدا أداءه يعطي مؤشرات على بوادر تغيير في السياسة الخارجية الروسية. ولكن هذه المؤشرات كانت تبدو زائفة في لحظة الحسم، إذ كان الموقف الروسي الذي يعبر عنه الرجل يتلاشى فجأة ويتبخر في الهواء، ليتلو الرجل نفسه في مجلس الأمن كلمة روسيا بلغة وموقف نظام يلتسن التنازلي المعهود.
وفي الحقيقة، فإن لافروف، "المرسال" الروسي الذي كان يفترض أن ينسق السياسة الخارجية الروسية مع الحكومة الأمريكية، سلك سلوكاً استقلالياً اضطر معه أركان المعادلة إلى قلبها؛ فبدلاً من أن يكون هو ضابط الارتباط في الأمم المتحدة بين حكومته والإرادة الأمريكية، تحولت حكومته إلى "مرسال" بينه وبين الأمريكيين، تنسق خطواته مع واشنطن، وتكبح جماحه وتعيده إلى السراط الأمريكي كلما شطّ وابتعد. وهذا الأمر بالذات كان يقف خلف تلك الظاهرة التي لاحظها العالم حول المواقف الروسية في القضايا الدولية، منذ أواسط التسعينات وحتى العام 2004، التي كانت تبدأ متشددة، ثم تنهار دفعة واحدة!
كانت متشددة، طالما أن المندوب الدائم يتحدث، وتنهار حينما تتدخل حكومته الخائرة، وتملي عليه موقفها، وتلزمه بالتعبير عنه!
وهنا، لا بد أن نسترجع بعض الحقائق غير المشهورة عن لافروف أثناء خدمته الأخيرة في الأمم المتحدة؛ لقد أعاد إلى البعثة الروسية دورها ومكانتها في السياسة الخارجية الروسية، فهذه البعثة التي تحولت منذ العام 1988 إلى مجرد هيئة تمثيلية، عادت مع لافروف إلى وضعها التقليدي كـ"وزارة الخارجية المصغرة"، كما كانت في العهد السوفييتي.
تفرد لافروف، وفق ما يذكر زملائه بالبعثة، باستقلاليته؛ كان يتخذ المواقف ويبلغ موسكو بها، ولم يكن ينتظر تعليمات من حكومته. وهذا قاد بالطبع إلى اهتمام غير عادي من وزارة الخارجية لمتابعته، أولاً بأول، وموافاته بطلباتها وتعليماتها، لقطع الطريق على ارتجاله ومبادراته. والأهم من ذلك أنه لم يُمنح أبداً تفويضاً باستخدام "الفيتو" إلى أن ختم ولايته، فكان المندوب السوفيتي والروسي الوحيد الذي أحجمت "الخارجية" عن منحه هذا التفويض، وحرمته من التسلح به.
وبهذا، كان الرجل الذي ينافح عن مصالح الدولة الروسية في "مجلس الأمن"، ويجابه زملائه من ممثلي الدول الغربية بعناد وشراسة، مكشوف الظهر، وكان يضطر مرة بعد مرة لتجرع الهزيمة أمامهم بمرارة ووجه معذب، لا لأنه كان يخسر المواجهة معهم، بل لأن هؤلاء يلجأون للاستنجاد بحكومته، فتضع له حداً..!
لقد مثل لافروف، الذي كان قد تم إرساله للأمم المتحدة نفياً له عن "الخارجية"، حتى ذلك الحين جدار آيلاً للسقوط، إذ أنه ذهب بعيداً في منافسة "المركز" في تقديم المقاربات، وسجل "خطيئة" يصعب على "ديمقراطيي" روسيا الجدد غفرانها وتمثلت بمحاولة استعادة أساليب العمل السوفييتي في البعثة، كما خبرها طوال الثمانينات، وحاول أن يجعل من "وزارة الخارجية المصغرة" التي كان يقودها المرجع النهائي في كل ما يصل على الأمم المتحدة ومجلس الأمن من قضايا دولية، تاركاً لموسكو إدارة العلاقات الدبلوماسية.
وتدخل الزمن لصالح لافروف؛ فقد أجبر فلاديمير بوتين الرئيس الروسي في ذلك الوقت بوريس يلتسن على الاستقالة، وتسلم الرئاسة مكانه عشية العام 2000. وفي هذا العام، جاء الرئيس الروسي الجديد إلى نيويورك لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة (اجتماعات الألفية الثالثة)، وهناك لحظ لافروف، وأثار انتباهه أنه كان حاضراً بالمقاربات الجديدة المختلفة حول كل القضايا المطروحة، ولم يكن يتوه في تفاصيل العلاقات مع الولايات المتحدة ومفارقاتها. وكان يقدم بسهولة متناهية للرئيس الجديد المقاربات الناجعة لإدارة جداول الأعمال في كل الاجتماعات التي كان يعقدها مع رؤساء الدول. وعملياً، فقد كان فرض لافروف، نفسه بديلاً لفريق وزارة الخارجية المرافق لبوتين في إدارة تلك الجولة من العمل الدبلوماسي والسياسي.
ومنذ لحظتها، لم يعد لافروف جداراً آيلاً للسقوط، إذ عاد بوتين إلى موسكو مقتنعاً أن مندوبه الدائم في الأمم المتحدة متمكن من عمله جيداً، ويعرف خصومه بشكل كاف، ويتمتع بالإرادة والخبرة لإدارة علاقاته معهم؛ ورغم ذلك، فإن انشغال الرئيس الروسي الجديد بشؤونه الداخلية، لم تشجعه على منح لافروف التفويض الذي يتناسب مع الإعجاب الذي أثاره.
بقي لافروف محكوماً بعلاقته التقليدية مع "الوزارة" إلى العام 2004، حينما طلبه بوتين لوزارة الخارجية؛ وأثارت موافقته على التعيين حينها الاستغراب في الأوساط السياسية في موسكو، فقيل أنه تم ترويضه أخيراً، وقبل أن يكون وزيراً لا يمون على شيء، فالسياسة الخارجية كانت ترسمها عدة هيئات خارج الوزارة، منها هيئة الشؤون الخارجية التابعة لمكتب الرئيس، وأخرى تابعة لمجلس الأمن الروسي.
بعد نحو شهرين من التعيين، تلاشى الاستغراب وانتهت أسباب العجب، فقد أصدر بوتين مرسوماً يقضي بتفويض وزارة الخارجية حصراً بوضع الاستراتيجيات الخاصة بالسياسة الخارجية الروسية؛ وبهذا فتح المجال أمام تغيير في السياسة الخارجية، بل وبخطاب بوتين نفسه!
كل ذلك، وبقي لافروف محتفظاً بوجهه المعذب!

ليست هناك تعليقات: