الأربعاء، 29 يونيو 2011

تركيا هي تركيا


أربكت أحداث الأسابيع الماضية المتابعين للشأن التركي؛ فقد بدا أن تركيا أردوغان التي انخرطت خلال العامين الماضيين بتوثيق علاقاتها العربية، وبالذات مع محور سوريا وحلفائها، عادت اليوم لترتد إلى خطوط سياستها التقليدية، بالانسجام مع الموقف الأمريكي والتوافق مع دول أوروبا بما يتعلق بقضايا المنطقة العربية، والعودة إلى أولوية العلاقة مع إسرائيل.
هناك، بطبيعة الحال من يرى أن السياسة التركية لم تتغير من الأصل، وأن كل ما جرى هو مجرد تعبيرات ومقاربات غير تقليدية في التعامل مع المستجدات الإقليمية؛ بينما يرى آخرون أن تركيا أنجزت بقيادة حزب العدالة والتنمية تحولاً استراتيجياً في سياستها الخارجية بالالتفات إلى محيطها الجغرافي والثقافي، ويدللون على ذلك بموقف طيب رجب أردوغان في دافوس وموقف تركيا المستجد من إسرائيل.
من المهم هنا، أن نلتفت إلى المعادلة الداخلية التي تحكم السياسات الخارجية للدول؛ ففي تركيا، جاء حزب التنمية والعدالة نتاجاً لحراك وتجارب حزبية متتابعة أطاحت بها المؤسسة العسكرية التركية. وبالتالي، ليس من المبالغة القول أن السياسة التركية اليوم، هي أولاً وأخيراً، نتاج معادلة طرفيها: ما يريده "الحزب"، وما تقبل به المؤسسة العسكرية.
ولا تكتمل المعادلة هنا، فالنجاحات التي حققها "الحزب" على الصعيد الانتخابي والسياسي، وتمكنه من توجيه عدة ضربات للمؤسسة العسكرية التقليدية، يفتح أمامه هامشاً أوسع من المناورة والجرأة في تقديم مقاربات "مستقلة". ولكن هذا في كل الأحوال لم يلغ خصوم "الحزب" الداخليين ولم يحيدهم، ولكنه نقل "الحزب" من حالة الانصياع والرضوخ للحدود إلى حالة من التنافس مع خصمه اللدود، في مجال تقديم مقاربات ناجحة، وقادرة على الحياة.
وبالنظر إلى ذلك، يمكن فهم أن "الحزب" لم يتخل عن "الهوس" التركي في الانضمام للإتحاد الأوروبي، بل على العكس تبناه كهاجس رئيس، وهدف يسعى لتحقيقه دون هوادة. وهو في ذلك، يحاول أن يقدم انجازاً يتفوق فيه على المؤسسة العسكرية، التي ترجمت في وقت مبكر (1952) التوق التركي التقليدي نحو أوروبا والغرب بالانضمام إلى حلف الأطلسي، ولكنها لم تستطع ضمان عضوية الإتحاد الأوروبي لتركيا، رغم سعيها الحثيث لتحقيق ذلك منذ تأسيس الإتحاد (1992).
وعليه، فلا بد من ملاحظة أن الحديث حول "تحول استراتيجي" في سياسة تركيا الخارجية، بالإشارة إلى سياسة التوجه نحو المحيط الثقافي والجغرافي والتاريخي، قد ينطوي على مبالغة كبيرة بإغفال ظروفه وحيثياته. وهنا لا بد من ملاحظة إن هذا "التحول الاستراتيجي" جاء كردة فعل على إشاحة أوروبا بوجهها عن تركيا وتعثر فرص الانضمام للاتحاد الأوروبي، ما يعني فشل حزب التنمية والعدالة في تحقيق إنجازه المنتظر بوجه المؤسسة العسكرية التركية.
ومن جهة ثانية، فإن هذا "التحول الاستراتيجي" تحقق في الواقع العملي إعلامياً أكثر مما على أرض الواقع، من خلال جملة من المواقف السياسية المثيرة مثل الموقف من الحرب على غزة وسيرة الباخرة "مافي مرمرة" وأسطول الحرية؛ رغم أن هذه جاءت في محاولة "قرص أذن" الصديق الإسرائيلي، الذي لم يتورع عن تشجيع الشريك الأوروبي على إغلاق باب "الاتحاد" بوجه تركيا "الإسلامية".
وبالأساس، لا يمكن الغفول عن أن هذا "التحول" لم يلغ توجه تركيا نحو الاتحاد الأوروبي، واستعدادها دفع الأثمان المطلوبة. وأن هذا لم يزل الهاجس الأساس لدى حزب التنمية والعدالة، الذي تبدو حركته جنوباً وشمالاً، شرقاً وغرباً مسكونة بهذا الهاجس، لا سيما وأن الداخل التركي، ومنه القاعدة الانتخابية للحزب، تتأثر بتحقيق إنجاز على جبهة الإتحاد الأوروبي.
ومع ذلك، لا بد من الإقرار بأن هذا "التحول الاستراتيجي" في السياسة الخارجية التركية هو حقيقي مع ذلك، ولكنه جاء مدفوعاً بتراجع مكانة ونفوذ الولايات المتحدة الأمريكية، الذي أدى بدوره إلى تزايد عدد الدول المشتركة بالتأثير على السياسة الدولية؛ أو ما يمكن وصفه بارتفاع مستوى تأثير القوى الإقليمية بتراجع مكانة القوى العظمى وانهيار نظام القطب الواحد. ومن الطبيعي في هذا السياق أن تسعى تركيا أن لإثبات حضورها كقوة إقليمية.
في هذا السياق، فإن تراجع مكانة الولايات المتحدة انعكس بطبيعة الحال سلباً على نفوذ المؤسسة العسكرية التركية، مما اتاح لحزب التنمية والعدالة هامشاً إضافياً من الحركة. وهو هامش تتم الاستفادة منه، في وقت يشهد ظهور قوى جديدة مؤثرة في الجوار الإقليمي سياسياً واقتصاديا وعسكريا، بتوسيع مجال اهتمامات السياسة الخارجية التركية؛ فيتجسد "التحول الاستراتيجي" في السياسة الخارجية التركية بالانتقال من طور العلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة إلى طور تمتين العلاقات مع بلدان أخرى مثل الصين والهند وإيران، وقبل ذلك الخروج من الحظر الأمريكي على علاقات تركيا مع روسيا.
لقد ساد الاعتقاد، دون مبرر، في العالم العربي، أن "التحول الإستراتيجي" في السياسة الخارجية التركية يقوم بالأساس على تغيير مبدئي في الموقف من القضايا العربية ومن إسرائيل، تحتمه الخلفية العقائدية الاسلامية لحزب العدالة والتنمية وشخصية زعيمه الجذابة. كما ساد، كذلك، وهم أن النجاحات المتتابعة لحزب التنمية والعدالة يعكس توجهاً اسلامياً في الشارع التركي، من شأنه أن يجعل تأييد القضايا العربية ثابتاً لا يتزعزع في السياسة الخارجية التركية.
وهذا محض وهم؛ فنجاحات حزب التنمية والعدالة تعود لتراجع نفوذ المؤسسة العسكرية التركية أساساً تبعاً لتراجع نفوذ الولايات المتحدة؛ إضافة إلى أن تركيا، التي يقع نحو سبع وتسعون بالمائة من أراضيها في آسيا، تفكر بعقل غربي بينما تستقر في اتجاه أو تتحول إلى آخر.
أما حصة العالم العربي وقضاياه من هذا "التحول الاستراتيجي"، فقد لخصها وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو حينما قال: "لن تشعرَ أوروبا أنها بحاجةٍ إلى تركيا، إلا عندما تصبحُ تركيا القوة الأكثر تأثيرًا في الشرق الأوسط".
هو ودّ أوروبا المطلوب إذاً!

ليست هناك تعليقات: