الأحد، 21 أغسطس 2011

مع سبق الإصرار والاستسهال

بدا أعضاء "لجنة الدولة للطوارئ" السوفيتية في إجراءاتهم، التي اتخذوها في سياق تطبيق حالة الطوارئ التي أعلنوها في البلاد، حائرين ومترددين؛ وكان من الواضح أنهم لا يتصرفون بثقة، وأن العزيمة تنقصهم للاضطلاع بالمهمة التي تنطحوا لها. ويبدو أن الأغراض الصغيرة، والطموحات الخاصة، لدى بعضهم، حرمتهم من الجرأة وأبداء ما يكفي من الشجاعة في التصدي للمهمة.

وفي السياق نفسه، كان ثمة تفاوت كبير في القدرات والاستعدادات الشخصية لدى أعضاء اللجنة؛ إذ بقيت الشخصيات القوية في الخلفية، بحكم مناصبها ومسؤولياتها، وجرياً على تقاليد تراتبية سوفيتية وربما روسية "قيصرية"؛ فرئيس وزراء الإتحاد السوفييتي، الذي يعي حقيقة الأزمة التي تعيشها البلاد وطبيعة الإجراءات المطلوبة، كان عليه أن يبقى عدة خطوات خلف نائب رئيس الإتحاد السوفييتي الذي رأس اللجنة، ورئيس "الكي. جي. بي"، العقل المدبر، كان عليه أن يبقى خطوات إضافية خلفهم جميعاً.

كان رئيس جهاز "الكي. جي. بي"، من ناحية، مطمئناً إلى شرعية "الخطوة" وإمكانية وضعها في سياق دستوري، من خلال دعوة مجلس السوفييت الأعلى (البرلمان السوفييتي) وأخذ مباركته عليها، ومن ناحية ثانية، كان مقتنعاً أنها "خطوة" سهلة، بقدر ما هي ضرورية، ولا إمكانية لمواجهتها لدى أي من الخصوم المتوقعين والمحتملين.

وعملياً، كان من الممكن أن يكون محقاً في ذلك، فقد شهد المجتمع تأزماً غير مسبوق نتيجة سياسات جورباتشوف في السنوات الأخيرة، وبدأت المواد الاستهلاكية، ومنها الغذائية، تصبح نادرة في الأسواق، وما يتوفر منها يتوفر بشكل متقطع، فانتشرت الطوابير الطويلة في مختلف أنحاء المدن السوفيتية، على نحو أعاد للأذهان صوراً لم تشهدها البلاد منذ أيام الحرب العالمية الثانية.

وبلغ الأمر ذروته حينما بدأت الطوابير على المواد الغذائية تشهد حالات من الشجار المتكرر بين المواطنين الساعين للشراء؛ وكان واضحاً لكل من يراقب أن المجتمع مقبل على حالة من الانفجار. هذا في الوقت الذي كانت فيه النخبة السياسية غارقة في شجاراتها الخاصة، ومناكفاتها التي لا تنتهي، بينما كان جورباتشوف منهمكاً بشكل أساسي في إدارة هذه "الشجارات" وتوجيهها؛ يؤججها مرة، ويهدئ من فورانها مرة أخرى، مبدياً حرصه البالغ على أن تبقى المحموعات السياسية المتصارعة في وضع يسمح لها بمواصلة "الشجار"، على أن لا يبلغ أي منها من القوة ما يمكنها من حسمه لصالحها.

وبمعنى آخر، كان يبدي حرصاً على ديمومة هذا "الشجار"..!

وهكذا، تحولت السياسة في أروقة الدولة السوفيتية، أواخر عهد جورباتشوف إلى "شجار" علني مفتوح، استقطب المجموعات السياسية والفعاليات المختلفة في المجمع، بالإضافة إلى ممثلي المؤسسات النقابية ومسؤولي الإدارات والقطاعات الاقتصادية. وأنشغل الجميع بهذا "الشجار"، إلى درجة أن كل طرف بات يستخدم ما تحت يده من صلاحيات أو مؤسسات ضد الأطراف الأخرى، وفي محاولات الإنتقام السياسي التي اعتمدت أسلوب إعاقة عمل الخصوم ومؤسساتهم لإفشالهم مهنياً؛ الأمر الذي سرعان ما قاد إلى فشل متزايد في عمل أجهزة الدولة ومؤسساتها الاقتصادية، التي بات كل منها يعمل ضد الآخر.

من هنا، جاءت فكرة إعلان حالة الطوارئ، التي تفتق عنها عقل رئيس "الكي. جي. بي"؛ أي، إنهاء حالة "الشجار" المشينة، والالتفات إلى وضع البلاد، التي باتت تسير نحو الهاوية؛ وكان من الطبيعي أن يكون أول حلفائه في هذا، رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي، الذي يحمل أمام الجميع، في الدولة والمجتمع، مسؤولية ما يجري في حين أن المجموعات السياسية داخل الحزب وخارجه، تخوض حروباً تعيق عمله وتعرقله.

وشاركت مجموعة القيادات المتقدمة رئيس "الكي. جي. بي"، قناعته بضرورة هذه "الخطوة"، ورأوا جميعاً أنه لا بد من إقناع رئيس الإتحاد السوفييتي بوجهة نظرهم. وكان رد جورباتشوف أنه لا يستطيع أن يكون مسؤولاً عن تنفيذ مثل هذا الإجراء؛ فجاءه ردهم جاهزاً، أنه يمكنه أن يذهب في إجازة فينأى بنفسه عن "الخطوة" ويعفي نفسه من تحمل وزرها، وكعادته لم يعترض جورباتشوف ولم يوافق، ولكنه نفذ اقتراحهم وأخذ إجازة، وذهب إلى منتجعه.

لم يكن ابتعاد جورباتشوف يمثل عائقاً؛ ففي قناعة رئيس "الكي. جي. بي" أن "الخطوة" لا تحتاج إلى أكثر من نائب رئيس الإتحاد السوفييتي ليكون لها عنواناً دستورياً، وإلى وزيري الداخلية والدفاع باعتبارهما رمزاً للأمن والسلامة الوطنية. وكان من المفترض أنه محق في ذلك، ولكنه ارتكب ثلاثة أخطاء قاتلة:

أولها، أنه لقناعته بأن "الخطوة" سهلة، وقع في باب الاستسهال الشديد. فلم يُعد السيناريو المطلوب لتنفيذ "الخطوة"، معتبراً أن الموضوع لا يحتاج لأكثر من بضعة تدابير ارتجالية، حسب الموقف؛ وكان ملفتاً أن "لجنة الطوارئ" لم تعد أية إجراءات طارئة، لا لتثبيت سلطتها وضمان قيامها ببتنفيذ مهامها، ولا برنامج عمل يوضح للشعب ما الذي تريد أن تفعله هذه "اللجنة"، ولا كيف ستفعل ذلك. وعملياً، كان مطلوباً من الشعب أن يثق بـ"اللجنة" انطلاقاً من الثقة بهم شخصياً، ولم يكونوا هم في الواقع، ككل سياسيين وسياسة تلك الفترة، موضع ثقة ولا محط شعبية!

وثانيها، أن قناعته بأن "الخطوة" شرعية تماماً قادته للاعتماد على واجهات اختارها لسهولة استقطابها، ولرمزية مناصبها؛ ولم يكتف بذلك، فقد ترك لها إدارة الأمور. ولكن هذه الواجهات كانت تفتقر إلى الإرادة والعزيمة، إضافة إلى أنها تمثل السياسات القديمة المتهالكة، وتفتقر إلى القدرات التنفيذية المطلوبة لإدارة الدولة في مثل هذا الظرف، متوقعاً أن ظهوره ووزير الدفاع بين أعضاء لجنة الطوارئ سيكون كافياً لحسم الأمر.

وثالثها، أنه لم يدرك أن السياسة تشبه الساحرة المتحولة، فحيث رأى أن خصومه غارقون في "شجار" مزري ومشين، لم يتوقع أن يتحول هذه "الشجار" في غمضة عين إلى فعل سياسي، ضاعف في فعاليته أن رئيس "الكي. جي. بي" ورفاقه لم يعدوا لخطوتهم أي سياق سياسي، وحرصوا على إبقائها كـ"إجراء" "طارئ" في سياق السياسة العامة المعمول بها، وكانت هذه الأخيرة قد استهلكت تماماً، واستنزفت شعبيتها.

هذه الأخطاء الثلاثة، بدت واضحة في المؤتمر الصحافي الهزيل، الذي عقده أعضاء "لجنة الدولة للطوارئ"، وقاد ظهورها علناً وبوضوح، إلى تجرؤ القوة السياسية الصاعدة، المتمثلة بيلتسن وأعوانه، إلى الإسراع بالدخول على الخط، حيث تمكنوا بالفعل من أخذ زمام المبادرة، فحولوا "الخطوة" الإجرائية إلى "انقلاب"، وروجوا لانقلابهم الفعلي باعتباره "ثورة".

ليست هناك تعليقات: