السبت، 10 ديسمبر 2011

الرحيل إلى لغة أخرى


عشت وتعلمت في روسيا، وتحديداً في عاصمتها موسكو؛ عاصرت بعضاً من الاتحاد السوفييتي وعشت في ظل روسيا الجديدة، واستخدمت في حياتي اليومية اللغة الروسية لنحو سبع سنوات. وربما كنت أفكر وأحلم بها أيضاً!
كانت اللغة العربية، طوال تلك السنوات، كنزي الشخصي الثمين، الذي يحمل هويتي وخصوصيتي الثقافية وسط بحر من الثقافات التي يحملها تعدد الجنسيات الكبير الذي يحيط بي، وكنت أعتني أيما عناية بتقديمها للآخرين بطريقة تحمل فرادتها وقوة هويتها، ودلالاتها على عناصر الهوية العربية.
لم تكن بالنسبة لي، كما يجب أن تكون أي لغة حية، مجرد لغة، بل كانت تمثل هويتي الشخصية والثقافية، وتختزل كل ما أود قوله عن عالمي وبيئتي وناسي وقومي، فرادى وكفكرة جامعة.
وبطبيعة الحال، فإن الحياة في الخارج، والتعامل اليومي الحثيث مع جنسيات متنوعة بدرجة كبيرة، وفروض الدراسة والحياة اليومية، كانت تقتضي مني الاعتماد على اللغة المشتركة، التي هي في ذلك الوقت، وفي ذلك المجتمع.. اللغة الروسية. وهذا الاستخدام واللجوء اليومي للغة الروسية، لم يكن ليكون بدون أثر، إذ ظلت ظلالها ومفرداتها تلاحقني، وتصدر عني، حتى بعد شهور طويلة من عودتي للاستقرار في الأردن.
وعليه، فقد كنت أؤرخ لانتهاء "غربتي" الروسية، باللحظة التي استعاد لساني لغتي العربية الأم صافية بدون زلل، أو مدخلات روسية من تراكيب ومفردات، تقتحم جملتي عفواً، وعلى غير إرادة مني. وهذا طبيعي، إذ لا تكتمل عودة الانسان إلى وطنه إلا بعودته التامة إلى لغته. ولكن ماذا بعد العودة..؟
لقد مرّ ما يزيد عن عقد ونصف على ذلك، ولكن النتيجة، للأسف، مخيبة للآمال، إذ ليس بوسعي إلا أن ألاحظ أن اللغة الأم التي عدت إليها، تمعن في مغادرة نفسها شيئاً فشيئاً، وترتحل باتجاهات متعددة؛ مرة إلى الماضي الذي ينسف علاقتها بالعصر وحقيقة أنها لغة حية، ومرة أخرى إلى منطقة ثقافية غريبة وهجينة، تهددها بالتشوه والتحلل، ومرة ثالثة إلى منطقة استلاب تعادي فيها نفسها..
والحال بات أكثر إزعاجاً، في الفترة الأخيرة، فقد باتت مفاهيم اللغة العربية ومنطوقها اليومي يدار حصرياً من خلال بث اعلامي غربي متواصل، يجد له بين ظهرانينا أبواق تردد صداه وتزيد من ارتفاعه؛ فانطلقنا لنستقبل ما أسماه الاعلام الغربي بـ"الربيع العربي" بحماس من يستقبل شيئاً من إنتاجه الخاص، ورحنا نروج لكل المفاهيم والأفكار والمقاربات التي دخلت معه، باعتبارها جزءاً من ثقافتنا الخاصة، وكأنما هي صنعت لأجل خدمتنا وخدمة مصالحنا القومية.
وما أسماه الاعلام الغربي بـ"الربيع العربي" مجرد عنوان بسيط انضوت تحت لوائه العشرات من المفردات الثقافية والمفاهيم والأفكار الغريبة المستلبة، التي كانت مذمومة عربيا في العادة، ولكنها أضحت اليوم موضع ترحيب وقبول تام من قبل البعض. بل أن الأمر طال الخطاب السياسي العربي نفسه، يبدو اليوم مستلباً بالكامل للسيد الاستعماري، ويزاود عليه.
وعملياً، فإنني أستمع وأشاهد بعض وسائلنا الاعلامية، وأقرأ اليوم بعض كثير مما تنشره الصحافة العربية، فينتابني احساس قوي بأنني إزاء لغة غريبة، أو إعلام غريب مترجم للعربية بأفضل الأحوال؛ لا إزاء إعلام يفترض "عربي القلب واللسان"..! ومع ذلك، ورغم بداهة الموقف ووضوحه، فإن هناك عملياً انقساما في الشارع العربي حول ما يحدث ويجري اليوم في بلادنا العربية من أحداث، إذ لا يزال البعض يقسم بـ"عروبة" مشهد الدمى العربية التي تحركها الأيادي الغريبة.
لقد تضمنت رحلتي الطويلة مع اللغة الروسية، مرحلة عاشت فيها روسيا انهيار الدولة ومؤسساتها وتحولها إلى تركة تتناهبها الأيدي الداخلية والخارجية، وشهدت ما نشهده اليوم من سيطرة غربية صهيونية شبه تامة على وسائل الإعلام العامة، وتامة بالمطلق على وسائل الاعلام الكبيرة والمهمة، التي تم استخدامها بضراوة (كما "الجزيرة" وأخواتها اليوم) لشن حملة لإعادة تشكيل لوعي المجتمع والمواطن، حول نفسه وحول العالم وحول ثقافته وتاريخه. وكانت تلك من أشد "الحروب" الصامتة التي عاشتها روسيا، وأدت إلى دمارها الثقافي والروحي وتحطيم البنى الأخلاقية، وبالتالي تمزيق المجتمع، وتحويله إلى جماعات تستجدي الغريب كل شيء: بدءاً من اللقمة، وليس انتهاء بالاحتلال!
هذه المرحلة هي ما يثير فزعي وقلقي الآن، فالرئيس الروسي الذي ورث في أواخر التسعينات هذه التركة (بوتين) لم يكن أمامه ليوقف هذا الانهيار الشامل إلا استخدام القوة المفرطة، بدءاً من تعطيل قوانين الصحافة وضرب المجموعات الاعلامية التي كانت تعمل للخارج بشكل مفضوح، وتقييد عمل الأخرى التي كانت تؤدي هذا الدور على نحو غير مباشر، والتعامل بحزم مع منظمات المجتمع المدني التي اتضح أنه لا وجود لها خارج التموّل من مؤسسات استخباراتية أو صهيونية.
واقتضى منه ذلك، لمن لا يذكر، توجيه ضربات قاصمة ومتتالية لأباطرة المال الجدد (نسبة كبيرة منهم يهود) الذين كانوا يوظفون المقدرات التي نهبوها من الدولة في تهديم بنى الدولة نفسها، ولم يستطع انجاز هذه المهمة دون استخدام الطائرات وشن الحرب التي استهل بها رئاسته لمجلس الوزراء لأول مرة، قبل أن يتسلم الرئاسة لاحقاً.
ما يخيفني اليوم هو أن الواقع العربي مرشح للوصول إلى هذه النقطة الحاسمة، التي تستوجب خيارات مصيرية: القبول بالانحدار إلى ما لا نهاية، أو اتخاذ قرار باستعادة الاوطان مهما يتطلبه ذلك من ثمن؛ ففي هذا الواقع، الذي ترحل فيه اللغة عن نفسها وعن عقول أهلها، وتصبح لساناً ينطق بلغة أعدائها، يصبح الحال مؤلماً، ولا يطاق. واستمراره يدفع أهلها للرحيل إلى لغة أخرى.

هناك تعليق واحد:

Khoud يقول...

كان شهيد اللغة العربية مالك حداد يقول: الفرنسية منفاي.

وكان يحلم بعودته للغته العربية الأم.

اليوم يا ياسر منافينا كُثُر، وأخشى أن تصير أمهاتنا كثر أيضاً فلا ندري إلى أيهن نعود.

خود