احتاج اسقاط نظام زين العابدين بن علي إلى شهر من التظاهرات العارمة، والسخط الشعبي العنيف الذي عم أرجاء تونس، وتخللته مشاهد غير مسبوقة من التضحية بالذات، عكست حجم إصرار المحتجين، وتمسكهم بتحقيق هدفهم.
واحتاج "الراحل الكبير" إلى ثلاثة أيام، وبضعة آلاف من الفتية المراهقين عمرياً، وأقل من ذلك من المراهقين سياسياً، وصورة صحافية سخيفة ليلتسن يعتلي ظهر دبابة؛ التقط مثلها، قبل أن تواتيه الشجاعة لأن يفعل، الآلاف من أهالي موسكو وزوارها، ومن هؤلاء الأخيرين بضعة من أبناء بلدتي "مليح"، الذين صدف أن وفدوا إلى موسكو زائرين تلك الأيام؛ إذ بدا "الانقلاب" و"ثورة" يلتسن عليه، في الزاقع، مشهداً سياحياً مثيراً، أكثر من كونه منعطفاً سياسياً مفصلياً، لا سيما في يومه الأول!
وفي المقابل، صمد في مصر رئيسها المريض حسني مبارك نحو ثلاثة أسابيع، رغم ضعف ولاء الجيش له، وبمواجهة السخط الشعبي الكبير، الذي سيّر عشرات التظاهرات المليونية بمختلف المدن الكبرى، وعطل الحياة العامة، وأرهق النظام، واستنزف أجهزة الدولة؛ بل وقبل ذلك، رغم الحالة المزرية من الفساد والترهل، وعملياً الانهيار شبه التام في الأداء والكفاءة، التي كان يعيشها النظام نفسه، وجهاز الدولة البيروقراطي، الذي يفترض أن يدعمه..
وفي ليبيا، ما يزال نظام القذافي صامداً منذ أشهر بوجه تمرد داخلي واسع يشلّ نصف بلاده، بمساندة آلة حلف "الناتو" العسكرية والعقوبات الدولية؛ وبرغم هشاشة مؤسسات الدولة وضعفها العام، ونحو عشرين عاماً من الحصار الاقتصادي والجوي، التي لم تكد تخرج منها ليبيا.
وبالمقابل، انهار "الراحل الكبير" في أيام معدودة، وكان حينها قوة عظمى مرهوبة الجانب؛ يحسب لها ألف حساب، تفرض إرادتها، وترسم الحدود للآخرين، وتحدد مصير غيرهم، وتلجأ إليها الشعوب والدول المستضعفة، ولا يجرؤ أحد على مجابهتها.
وكان يحمي "الراحل الكبير"، حينها، جهاز استخباراتي أسطوري (كي. جي. بي)، يضرب به المثل في الأداء والكفاءة، وفي الولاء لدولته، ويعد أحد أقوى القلاع في حماية أيدلوجيته ودور حزبه، كما في سيطرته على مجتمعه، واختراقه لعقول وخزائن الخصوم والأعداء السرية.
وكان يحميه حينها، كذلك، واحد من أقوى الجيوش في العالم، وأفضلها تسليحاً، وأشدها ولاء، وأكثرها عقائدية وتسيساً؛ لم يتردد مرة في تنفيذ أوامر قيادته السياسية، لا في الخارج ولا في الداخل؛ من بودابست في أواسط الخمسينات و"ربيع براغ" في أواخر الستينات، إلى التدخل في البؤر الداخلية الملتهبة في مطلع التسعينات.
وكان "الراحل الكبير"، حينها، يستند إلى حزب سياسي يعد أعضائه بالملايين، ناهيك عن منظماته الموازية، والدعم المؤثر من ملايين المتقاعدين من موظفين مدنيين وعمال ومحاربين قدامى، كان لهم في المجتمع السوفيتي "المسن" صوتهم المرتفع والنافذ، والأبلغ تأثيرا بحكم عدم ميل الفئات الأقل عمراً للانشغال بالسياسة.
وكان "الراحل الكبير"، حينها، يوظف جهازاً بيروقراطياً تقليدياً هائلاً، ارتبطت مصالحه باحترام التراتبية الهرمية للكوادر والمؤسسات؛ وما يزال إلى اليوم، كما كان سابقاً، يمثل "الحزب" الأشد تأثيراً وحسماً، في الحياة السياسية، واللاعب الأكبر فيها.
انهار "الراحل الكبير" في أيام معدودة، لا تزيد عن ثلاثة، رغم امتلاكه لكل أسباب القوة، ورغم كل هؤلاء الذين لم يكن أي منهم ليتردد في الدفاع عنه، أو على الأقل تنفيذ الأوامر بحمايته.
وفي الواقع، ذلك يؤكد أن ما جرى للإتحاد السوفييتي، ليس انهياراً حتمياً، بل اغتيال مدبراً بصمت وتواطؤ، وكانت أهم آلياته، تعطيل عمل ميكانزمات دفاعه الذاتي، وفصل موصلاتها ببعضها البعض، لعرقلة إمكانية عملها في سياق جهد واحد منظم ومعقلن.
وهذا كان الجهد التخريبي الأكثر خبثاً من بين كل جهود جورباتشوف، الذي دأب على الحديث عن تفكيك النظام للتغلب على مقاومته لـ"البيروسترويكا"، أي "إعادة البناء"، التي كانت ما تزال تعني آنذاك "الإصلاح".
أنا اليوم مؤمن أكثر من أي وقت مضى، أنه يتوجب نبش "قبر الراحل الكبير"، وإعادة تشريح جثته والوقوف على الأسباب الحقيقية لوفاته. فما جرى ليس مجرد انقلاب. بل خمسة عشر انقلابا ونيف وكسب حرب باردة، في ضربة واحدة، لا يعلم أحد كم استغرق الإعداد لها.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق