الجمعة، 3 يونيو 2011

ما يزال الربيع في أوله

اختلطت الثورة بالثورة المضادة في الربيع العربي، وخشي كثير من المستبشرين أن ينقلب الربيع إلى صيف حارق تكتوي به أيدي الشعوب التي حركت نسمات الهواء في بلادها، وفتحت الستائر لأشعة الشمس.
ولكن الربيع ما يزال في أوله، وثمة أزهار تتفتح للتو. وبعد قليل، يظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وتنجلي حقيقة الثورات، فتخيب المضادة منها، وتنسحب مفسحة المجال أمام الإرادة الشعبية..
وهنا، ثمة مساران، لا ثالث لهما؛ الإصلاح أو الثورة. من استجاب للأول، لم يضطر للتعامل مع الثانية؛ أما الدرب الثالث الذي يحاوله محركو الثورات المضادة فمكلف للشعوب وللحكم وللمجتمع، وثقيلة الوطأة على النفس وصفحات التاريخ، وهو بالأساس درب لا يفضي إلا إلى تصفية القوى التي تدفع باتجاهه، بعنف، وشدة، وطيها مع صفحات الماضي، التي جثمت كثيراً على صدر الحاضر، قبل أن تمتد إليها يد الشعوب لتقلبها، وتنتهي منها..
شيء مثل هذا لو فهمه الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، لكان وفر الدماء، وماء الوجه، وانسحب إلى عزلة لا يقتحمها عليه أحد؛ ولكن صالح مثله مثل كثيرين قبله، كانوا ظاهرياً يحكمون باسم قوى اجتماعية، بينما هو في حقيقة الأمر حاكم فرد، لا يأبه إلا بنفسه وبدائرة الأقرباء المقربين.
جاء مقدما لخدمات، وحكم يقدم الخدمات، وهو لا يصدق الآن أن خدماته لم تعد مطلوبة من أحد بعد!
لقد قيل في تفسير حالة صالح إنه من خلفية عسكرية، وجاء إلى السلطة في ظروف انقلابية هيأها الإغتيال المقيد ضد مجهول لإثنين من رؤساء اليمن الشمالي في وقت تزامن مع صعود صاروخي لنجمه.
والحكاية، بإختصار، تقول إن نجم صالح بدأ بالصعود بعد توليه مسؤولية قائد لواء تعز، عاصمة عهد الإمام، وثاني أكبر محافظات الجمهورية العربية اليمنية، مما جعله يصبح معروفاً لدى القادة والمشائخ في اليمن الشمالي، وأهله للإرتباط بعلاقات قوية مع شيوخ القبائل من أصحاب النفوذ القوي في الدولة.
وتوالت الأحداث، حيث وصل إبراهيم الحمدي في 1974 إلى السلطة بأجندة ثورية جديدة رافعاً مبادئ مختلفة تنحو منحى الدفع في اتجاه الوحدة اليمنية، مما أدى إلى تقارب كبير مع النظام الجنوبي، ما أمن له ارتفاع شعبية داخلية في الشارع اليمني، وسخطاً خارجيا وقلقاً من جهة الشقيقة الكبرى المجاورة.
وبطبيعة الحال، كان نظام الحمدي كان بنفس الدرجة مزعجاً لنظام المشايخ القبلي في اليمن، وكان ذلك كفيلاً بإنهاء رئاسته وحياته في آن. فقد تم اغتياله وشقيقه في أكتوبر 1977 قبل يوم من سفره إلى الشطر الجنوبي للتوقيع على اتفاقية تفاهم حول الوحدة، وسُجلت القضية ضد مجهول.
ولم ينج من هذا المصير ، خلفه في الرئاسة، أحمد الغشمي، الذي أغتيل بعد ذلك بأقل من عام واحد!
كان لهذه الإغتيالات المريبة وغير معروفة الأبعاد تدفع باتجاه واحد: مزيداً من الصعود لنجم صالح، الذي أصبح بعد أقل من شهر من مقتل الغشمي، رئيسا للجمهورية العربية اليمنية، وذلك في يوليو 1978م.
وعملياً، فإننا نكتشف في وضع صالح وحالته، أن الظروف الإنقلابية التي جاءت به إلى السلطة، وطريقة ممارسته لها لاحقاً، تجعل من وصول السلطة إليه أكثر غموضاً وأدنى من أن توصف بانقلاب؛ إنها على نحو ما عملية "سطو مسلح" على المجتمع انتهت بالاستيلاء على السلطة!  
ويحب بعض المحللين السياسيين أن يربطوا بين وصوله إلى السلطة والجهد السعودي لعزل نظام اليمن الجنوبي آنذاك، ثم مع تسوياته الكبيرة للخلافات الحدودية الشائكة مع "المملكة"، ثم دوره في إنهاء تجربة اليمن الجنوبي والتخلص بطريقته الديموغوجية المراوغة من أركان النظام الماركسي فيها الذين كان يفترض أن يشاركوه الحكم في يمن الوحدة.
وبالتأكيد، لا مبالغة في القول بأن مثل صالح وحاله لا يرقى حتى لأن يكون "انقلابي"، فيتساوى في الصفة والحال مع جمال عبد الناصر بمأثرته، التي جددت وجه مصر وأهدتها أول رئيس من أبنائها منذ الفراعنة، أو عبد الكريم قاسم.. أو من هو أدنى منهما بكثير!
لقد نقل جمال عبد الناصر مصر من حالة الاستغراق في الهذر السياسي، إلى بناء أكبر وأوسع وأهم قطاع عام في العالم العربي، ومن أكبرها وأوسعها في العالم الثالث، وحول الفلاح من عبد في أرض علية القوم إلى مواطن في أرض وطنه؛ كما بنى قاعدة صناعية، حاول خلفائه على تبديدها وتفكيكها، فلم تكفهم الأربعين عاما التي حكموا فيها بعده..
هذا نموذج، لا يمكن أن يتساوى مع نموذج بدد وبدد الخيرات والقدرات، واليوم يبدد الدماء مع المقدرات!
لقد منح صالح اليمن، سنوات من الاستغراق في عالم القات، وتسليح القبائل، ومداً أصولياً متطرفاً، وحروباً أهلية، وصدامات مسلحة، وفقدان للأمن في بقاع شاسعة من البلاد، واستشراء للفقر في اليمن الذي كان وصف بالسعيد، ونزعات انفصالية، وحركات تمرد. وسلطة مراوغة تغتال أحلام اليمنيين يوماً بيوم!
في مصر، كان عبد الناصر يمثل مخرجاً وحلاً لأزمات مصر التاريخية المزمنة. أما في اليمن، فإن الخلاص من علي عبد الله صالح يمثل اليوم الحل الأمثل لكل أزمات البلد المنكوب!
ويعتقد الرجل أن هناك فسحة من المناورة؛ فاستقبل المبادرة الخليجية بنية كسب الوقت، وفي ظنه أنه كسب الجولة وبعض الوقت الضروري لتجاوز الأزمة، وما يكفي من الوقت ليتنبه مستخدموه السابقون لقدرته على تقديم الخدمات، فيعيدونه إلى حضن الرعاية؛ لكنه يخطئ، فما من أحد يهتم بمستخدم أستهلك، وانتهى دوره.
وهو كذلك واهم، فما يزال الربيع في أوله، والأمطار الموسمية المقبلة على اليمن، ستروي أرضه، وتنبت الزهور التي تنتظر موعدها. ولا يفوته الحدس بذلك، فيقرر أن يكون وراءه طوفان من دم، وقذائف، ونيران تشعل القلوب الملتهبة..
ويخطئ، هنا، صالح، إذ ما من طوفان يأتي بعده!
بعده يفرغ اليمن للملمة جراحه، وينظر مستقبله، ويأخذ مكانه تحت شمس جديدة، تشرق بآماله، وتعيد له موقعه ومكانته المهدورة.. !

ليست هناك تعليقات: