الجمعة، 6 مايو 2011

قتيل لم يره أحد


يبدو أن الإدارة الأمريكية، التي حققت إنجازاً عزّ عليها منذ أواسط تسعينات القرن الماضي، وعرّض فشلها في تحقيقه طوال هذه السنوات سمعتها لأسوأ العواقب، وجعلها عرضة للتندر والتشكيك بقوتها ومنعتها، تجد نفسها مضطرة لأن تتحمل دفعة جديدة من الحملات التي تشكك بصحة زعمها بتحقيق انجازها.
 
وهذا ملفت على أقل تقدير!

وهو سلوك غريب وغير متوقع من الإدارة الأمريكية، التي كانت مستعدة لتدفع الغالي والنفيس، في سبيل الاقتراب من هدفها المعلن بالنيل من زعيم القاعدة أسامة بن لادن، وغير معهود منها في حالات سابقة تتساوى في الأهمية مع هذه الواقعة، بل ومع أخرى أقل أهمية.

والأمر لا يتعلق بالحكومة الأمريكية فقط وبأجهزتها الأمنية، بل وبالولايات المتحدة الأمريكية نفسها، لقد جرحت في كرامتها جرحاً بالغاً، ترك ندبة لن تمحى على مرِّ الأيام والسنين.

والأمر لا يتعلق، كذلك، بدولة هي عظمى وبكبريائها. بل وبأمة لم تكن مضطرة لأن تعرف كم هي عدد دول أوروبا، أو إن كانت أفريقيا موجودة على كوكبنا أم المريخ؛ أمة وجدت نفسها فجأة مضطرة لأن تخشى حذاء مسافر في المطار، وأن تقبل مصادرة حرياتها المدنية، وتتخلى عن الحرمات الخاصة، والتنازل عن الحق في صون الخصوصيات الشخصية.

أمريكا هذه، نفسها، تمتنع لسبب ما، عن الكشف عن أبسط الأدلة، التي تثبت صدق إعلانها بتحقيق انجازها، الذي لطالما كان تحقيقه يؤرقها، ويقض مضجعها، وسبب لها تأخرها في تحقيقه الإحراج الكبير!

ولأول مرة، وبشكل مريب، لم تأخذ البهجة بالحدث الولايات المتحدة إلى التشفي والتباهي، كما حصل في مرات سابقة، كما في اعتقال صدام حسين ومقتل الزرقاوي وأبني صدام وحفيده وحتى في الحالة الأقدم كثيراً وهي القبض على نورييغا..!

لقد عودتنا الولايات المتحدة، طوال الوقت، لا سيما في الظروف التي تحكمها المعادلة الانتخابية كهذا الوقت تماماً، على إتاحة انجازها لوسائل الإعلام، وتقديم رواية مشوقة لا تخلوا من التفاصيل الدرامية. ولكن أمريكا اليوم تكتفي بالإعلان عن انجازها، وتتحفظ على أبسط الأدلة، وتقدم رواية مهلهلة لم ترو ظمأ الإعلام ولم تقنع الجمهور، المؤيد والمعارض على حد سواء، ولسان حالها على نحو عاجز بشكل مريب يقول: صدقوا أو لا تصدقوا، ولكننا نلنا من أسامة بن لادن!

وعموماً، فإن هذه الواقعة الأمريكية، التي لا تشبه أمريكا في شيء، تثير ثلاثة أسئلة رئيسية، وهي:

-        لماذا تحفظت الإدارة الأمريكية على بث صور للعملية ولجثة بن لادن..؟

-        ما سر القرار الفوري بدفن طريدتها أسامة ابن لادن، بسرعة مفاجئة بكل المقاييس، وبشكل يوحي بالقصدية المسبقة والمخطط لها..؟

-        ولماذا تفتق ذهنها عن دفنه في البحر، وكيف واتتها الفكرة واستقرت عليها بهذه السرعة..؟

بطبيعة الحال هذه الأسئلة حظيت بإجابات رسمية وغير رسمية، ولكنها كلها مرتجلة وغير مقنعة، وأضافت شكوكاً إلى الشكوك، ولم تقربنا من اليقين، لا سيما أن أقوال المسؤولين الأمريكيين، وموظفي البيت الأبيض الكبار الذين أشرفوا على العملية، تضاربت وتناقضت في أكثر من تفصيل (باكستان تعلم أو لا تعلم، ابن لادن قتل وحده، أو قتل معه آخرين من عائلته، وأنه كان مسلحا وأنه لم يكن.. وغير ذلك الكثير).

قيل في التبرير، الذي أريد منه أن يكون إجابات على هذه الأسئلة، أن الولايات المتحدة تخشى أن تسبب بشاعة هذه الصور استفزازاً، وهذا لا يشبه الولايات المتحدة، التي خرقت مراراً الاتفاقيات الدولية بعرض صور الأسرى والمعتقلين بأوضاع مهينة، دون أن تأبه لمشاعر أحد. إضافة إلى أنها لم صمتت على الصورة المزيفة التي بثتها محطات التلفزة الباكستانية (من سربها لها، ولأي غرض؟)، ولم تسارع إلى توضيح أنها مفبركة إلى أن اكتشفت وكالة "فرانس برس" زيفها، وهو ما دفع بالمحطات الباكستانية إلى سحبها، ثم بعدها أطلقت الولايات المتحدة تحفظها على بث الصور الحقيقية بالأعذار الواهية.

وقيل كذلك في التبرير، الذي أريد منه أن يكون إجابة، أن الولايات المتحدة سارعت إلى دفنه مراعاة للتعاليم الإسلامية، التي تقضي بدفن الميت خلال أربع وعشرين ساعة. ولم نعلم أن الولايات المتحدة كانت تريد إكرام أسامة بن لادن ميتاً. ولا عهد لنا بها حريصة على مراعاة التعاليم الإسلامية، ولا هذه التعاليم تلزم بالدفن السريع، والأمريكيون يعلمون ذلك.

وقيل أيضاً في التبرير، الذي أريد منه أن يكون إجابة، أن الولايات المتحدة لجأت إلى دفنه في البحر لأن ما من دولة تقبل بدفنه فيها، وهذا يثير أسئلة حول السرعة المذهلة التي استطاعت بها أمريكا استمزاج دول العالم وما دفعها لليأس خلال أربع وعشرين ساعة من إمكانية إيجاد حل. وقيل كذلك أن الأمريكيون فعلوا ذلك لكي لا يتحول قبره إلى مزار، علماً أن المزارات لا تحتاج إلى قبور حصراً، فالمكان الذي قتل فيه أكثر من كاف ليكون مزاراً، إن أراد مريدوه مزاراً له. ويعلم هذا الأمريكيون، الذين يحرصون سنوياً على زيارة المواقع التي يموت فيها أحبتهم ويغمرونها بالزهور. فلِمَ تم الكشف عن مكان البيت الذي قتل فيه، إذاً.

هذه الأسئلة لا تبتغي نفي مقتل أو موت ابن لادن، ولكنها تتجه لإثارة مزيد من الشكوك حول الرواية الأمريكية تحديداً، وتؤشر على حجم الأسرار والغموض الذي يكتنف العملية، التي كان يمكن أن تنتهي باعتقال ابن لادن حياً، وسيواجه أوباما حينها معضلة كبرى، فهو لن يستطيع محاولة منحه ما حاول منحه لمعتقلي جوانتنامو، ولن يمكنه أن يقر علناً الأساليب الانتقامية المرعبة واللإنسانية المعدة للتعامل معه، في حال اعتقاله.

وهنا، لا بد من ملاحظة نأي أكثر المعنيين بها، جورج بوش الابن، بنفسه عن الحادثة واعتذاره عن قبول دعوة أوباما لحضور حفل بالمناسبة في الـ"غراوند زيرو"، وأن النقاش الداخلي الأمريكي انعطف بسرعة باتجاه الحديث عن الأساليب غير الشرعية في التحقيق واستخلاص المعلومات من المعتقلين، والإشارة على فضلها وفائدتها في تحقيق "الانجاز".. وربما يتطور هذا النقاش ليتحول إلى مقارنة تتخذ منها سابقة تضفي "الشرعية" على أساليب اعتقال غير شرعية.

وأخيراً: في حين تعلن الولايات المتحدة الأمريكية أنها قاتل أسامة بن لادن، فإن ابن لادن، نفسه، يبقى قتيلاً لم يره أحد؛ وفي التراث الجنائي يقال: إن لم تكن هناك جثة، فليست هنالك جريمة!



هناك تعليق واحد:

هالة كامل (ام احمد) يقول...

اكيد لن استطيع ان ازيد عليك سيدي الفاضل ولكن كنت كتبت لك تعليقا قبل ذلك عن هذه المقالة الرائعة تحياتي لشخصك الرائع