بقلـم: نقـولا ناصر
nassernicola@ymail.com
"تظل
العلاقات والسياسات الخارجية هي الخط الأحمر الذي يحدد سقف الحراك الشعبي العربي
الراهن، وتظل أيضا هي محك نجاح هذا الحراك أو فشله".
لقد كان إعلان المجلس الأعلى
للقوات المسلحة المصرية عن استئناف العمل بقوانين طوارئ حكم الرئيس السابق حسني
مبارك ردا على الاقتحام الشعبي لسفارة دولة الاحتلال الإسرائيلي في القاهرة مؤخرا
دليلا على أن الحراك الشعبي في مصر قد تخطى خطا أحمر لم ينجح هذا الحراك حتى الآن
في تجاوزه، وهو الخط الدقيق الفاصل بين السياسات الخارجية وبين السياسات الداخلية
التي يستهدفها الحراك الشعبي العربي بالإصلاح والتغيير، وهو الخط الذي حولته
الأنظمة العربية والقوى الدولية المساندة لها، في الغرب بخاصة والقوة الأميركية
على الأخص، إلى خط أحمر يحدد سقفا للحراك الشعبي ضد هذه الأنظمة لا يجوز تجاوزه،
خط يجيز التغيير الداخلي، ولو على مضض، حد الرضوخ للمطالب الشعبية بتغيير النظام
في الداخل لكن دون أي مساس بسياساته الخارجية.
وذلك يسلط الضوء مجددا على
حقيقة استحالة الفصل التعسفي بين الاستحقاق الداخلي للتغيير وبين الاستحقاق
الخارجي له، فالعوامل الداخلية الدافعة إلى المطالبة الشعبية بـ"إسقاط النظام"
لا يمكن فصلها تعسفيا عن حاضنتها الخارجية التي حولت الأنظمة العربية المستهدفة إلى
ابن شرعي لعلاقاتها الخارجية بحيث يستحيل تغييرها في الداخل دون تغيير علاقاتها
الخارجية.
والمثال المصري خير شاهد على
الاستماتة في محاولة فرض هذه المعادلة المستحيلة على الحراك الشعبي المصري. فالعلاقات
المصرية مع الولايات المتحدة، ووجود قوات حفظ السلام الدولية، وقوامها أميركي، في
شبه جزيرة سيناء، كلاهما خط أحمر لأنهما جزء لا يتجزأ من منظومة معاهدة السلام مع
دولة الاحتلال الإسرائيلي التي فرضت على الشعب المصري في ظل حالة الطوارئ التي
منعت أن يكون له أي رأي فيها، والتي افرز إبرامها النظام السياسي الذي جثم على
صدور الشعب المصري طوال ثلاثة عقود من الزمن وأفرز كل العوامل الداخلية التي قادت إلى
ثورة 25 يناير (كانون الثاني) عليه، وهي العوامل التي يستحيل فصلها فصلا تعسفيا عن
حاضنة اتفاقيات كامب ديفيد التي أفرزتها، فاستمرار العمل بهذا الاتفاقيات هو
الضمانة الأكيدة لخلق بيئة موضوعية لثورة مضادة تعيد إنتاج العوامل الداخلية التي
قادت إلى الثورة في المقام الأول.
إن تأخير تنفيذ المطالب
الشعبية لثورة 25 يناير، أو تطبيق البعض منها تحت الضغط الشعبي، وإعلان استئناف
العمل بقوانين الطوارئ بعد الاقتحام الشعبي لسفارة دولة الاحتلال الإسرائيلي،
وتمديد المجلس الأعلى للقوات المسلحة للفترة الانتقالية التي يحكم خلالها بعد أن
حدد مدتها بما لا يزيد على ستة أشهر بتأجيل الموعد الذي أعلنه المجلس لاجراء
الانتخابات العامة مرتين دون تحديد موعد قاطع لاجرائها حتى الآن، ومحاكمة أكثر من (12)
ألف مدني مصري أمام محاكم عسكرية منذ آذار / مارس الماضي مما دفع مفوضية الأمم
المتحدة لحقوق الإنسان إلى انتقادها بقوة وإلى دعوة المجلس الأعلى إلى محاكمة من
يتهمهم أمام محاكم مدنية، .. إلى غير ذلك من المؤشرات التي لا تترك مجالا للشك في
أن السياسات والعلاقات الخارجية لنظام حسني مبارك يجب أن تظل هي الخط الأحمر الذي
يحدد سقفا للحراك الشعبي المصري لا يجوز تجاوزه.
وفي هذا السياق يجب أن يبحث
المراقب عن السر في عدم حدوث تغيير جوهري حتى الآن في السياسة المصرية تجاه قطاع
غزة الذي لا يزال محاصرا، إسرائيليا وعربيا، كما كان في عهد مبارك. فالكونغرس
الأميركي، بعد 25 يناير، عندما وافق على استمرار المعونات لمصر بموجب اتفاقيات كامب
ديفيد اشترط أن "تشهد وزيرة الخارجية بأن مصر لا تسيطر عليها منظمة ارهابية
أجنبية"، وأنها تتخذ الخطوات لكشف وتدمير شبكة وأنفاق التهريب بين مصر وبين
قطاع غزة"، كما اشترط أن تستخدم المعونة العسكرية الأميركية لمصر ل"برامج
ونشاطات أمن الحدود في سيناء، مع توقع أن القوات المسلحة المصرية سوف تواصل
الالتزام بمعاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية وبتنفيذها".
وهذا خط أحمر واضح لا يجوز
للحراك الشعبي المصري تجاوزه، ومن الواضح أن قطع المعونة الأميركية لن يكون
العقوبة الوحيدة لتجاوزه، إذ من المتوقع أن تتبعه عقوبات جماعية أخرى مماثلة لتلك
العقوبات المفروضة على العديد من الدول العربية والإسلامية التي تصنفها الولايات المتحدة
ضمن "محور الشر"، لا بل ليس من المستبعد أن تقود أي محاولة مصرية عملية
لفرض إعادة التفاوض على اتفاقيات كامب والمعاهدة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، مثل
طلب سحب قوات حفظ السلام الدولية من سيناء، إلى إطلاق ضوء أخضر أميركي لعدوان إسرائيلي
على مصر على غرار عدوان عام 1967 الذي اعقب طلبا مماثلا من الرئيس جمال عبد الناصر
بسحب قوات الأمم المتحدة من سيناء. لذلك جاء الرد الإسرائيلي سريعا بالرفض على قول
رئيس الوزراء المصري الأسبوع الماضي إن معاهدة السلام "ليست مقدسة وبنودها
قابلة للنقاش .. وقابلة للتغيير"، في رد فعل يؤكد بأن السياسات والعلاقات
الخارجية لنظام مبارك سوف تظل هي الخط الأحمر الذي يقرر نجاح ثورة 25 يوليو أو
فشلها، ويؤكد بأن تغيير هذه السياسات والعلاقات هو شرط مسبق لنجاح التغيير في
الداخل.
والمفارقة أن هذا التغيير
الممنوع أميركيا وغربيا في السياسات والعلاقات الخارجية للأقطار العربية المستهدفة
التي تدور في فلك الإستراتيجية الأميركية قد سوغ التدخل العسكري الخارجي في
البحرين وأجاز قيام النظام ذاته بالإصلاح دون تغيير النظام في الأردن والبحرين والمغرب
وسلطنة عمان ومصر وتونس واليمن ، بينما ما زال هو العامل الأساسي الذي يمنع عسكرة
الحراك الشعبي السلمي في هذه الأقطار العربية، لكنه في ليبيا وسورية يسوغ التدخل
العسكري الأجنبي وعسكرة الحراك الشعبي السلمي منذ أيامه الأولى ويرفض قيام النظام
ذاته بالإصلاح ويحظر أي تغيير داخلي لا يقترن بـ"إسقاط النظام" ولا يكون
مشروطا بتغيير سياساته وعلاقاته الخارجية، وبخاصة في الحالة السورية.
لقد كان النظام العربي الإقليمي
منذ نهاية الحرب العالمية الأولى التي قادت إلى تجزئة الوطن العربي، لكن بخاصة منذ
الحرب العالمية الثانية التي ورثت الولايات المتحدة الأميركية في أعقابها
الاستعمار البريطاني – الفرنسي الأوروبي في الهيمنة الإقليمية على الوطن المجزأ،
نظاما أميركيا – أوروبيا بحكم الأمر الواقع، ويغيب عن جماهير الحراك الشعبي العربي
التي تستغيث بجامعة الدول العربية حقيقة أن هذه الجامعة أسستها سبع دول عربية كانت
تخضع للاستعمار الغربي المباشر عند تأسيسها، وبعد انتهاء نظام القطبين الدولي
بانهيار الاتحاد السوفياتي السابق ومنظمته الاشتراكية انفردت القوة الأميركية
العظمى الوحيدة بالهيمنة الإقليمية وكان الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 إيذانا
بأن هذه الهيمنة لم تعد تقبل حتى بـ"استقلال" عربي عنها.
وقد توج رضوخ "هذا" النظام
"العربي" للهيمنة الأميركية، الذي تعامى عن احتلال العراق في أحسن
الأحوال إن لم يكن قد شارك فيه أو تواطأ معه، بتبنيه على أرفع مستوى لـ"مبادرة
السلام العربية" مع دولة الاحتلال الإسرائيلي في مؤتمر قمة بيروت عام 2002 في
غياب الراحل ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية التي اعتمدتها واعتمدته قمة
عربية سابقة "الـ"ممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني الذي ظلت قوات
الاحتلال تحاصره في مقره برام الله حتى استشهاده ضمن خطة أميركية – إسرائيلية لـ"تغيير
النظام" الفلسطيني تعامى "هذا" النظام "العربي" ذاته
عنها في أحسن الأحوال إن لم يكن قد شارك فيها أو تواطأ معها دون أن يدرك بأنه إنما
كان بتعاميه يؤسس لسابقة لم تعد اليوم تستثني أحدا من قادة هذا النظام.
و"هذا" النظام
العربي المجزأ هو الأب الشرعي لكل المظالم والمفاسد التي فجرت الحراك الشعبي
الراهن المستمر، وهذا هو التناقض الرئيسي الذي لا يجب أن يسمح بان تكون لأي تناقض
ثانوي الأولوية عليه، ومن هنا فإن الفصل التعسفي بين هذا النظام وبين سياساته
وعلاقاته الخارجية، أو حصر أهداف الحراك الشعبي بتغيير آليات الحكم الداخلية فحسب،
إنما يمثل حكما مسبقا بالفشل على هذا الحراك، لأن تغيير السياسات والعلاقات
الخارجية لهذا النظام هو الشرط المسبق لنجاحه في التغيير الداخلي.
فالحراك الشعبي الذي يزيد في
عدد الدول العربية المنضمة إلى "الشراكة" مع حلف الناتو وإلى "التحالف"
مع الولايات المتحدة لا يبشر بانتهاء الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين والأميركي في
العراق ولا بانتهاء الهيمنة والوصاية الأميركية المفروضة على صنع القرار العربي
ولا بإحياء حد أدنى من التضامن العربي في مواجهة الهيمنة الأميركية - الإسرائيلية
تحديدا، وبالتالي فهو حراك يحرم نفسه من التضامن الشعبي العربي معه، لذلك فإن "صمت"
الحراك الشعبي و"المعارضة" التي تقوده عن إعلان موقف واضح من الإستراتيجية
الأميركية – الإسرائيلية في الوطن العربي قد بدأ يضعف التضامن الشعبي العربي
معهما، ويخلق الانقسام في هذا التضامن، ويثير الشبهات حولهما، والحالتان الليبية
والسورية مثالان واضحان.
وبالرغم من كل الرطانة
الأميركية والفرنسية والبريطانية عن حقوق الإنسان وحماية المدنيين والديموقراطية،
التي تذكر بنسخة فرنسية مبكرة منها عندما وجه نابليون بونابرت رسالة إلى شعب مصر
تمهيدا لاحتلالها في أواخر القرن الثامن عشر استهلها بالبسملة وشهادة "لا اله
إلا الله وحده لا شريك له في ملكه" قبل أن يحث فيها "المشايخ والأئمة"
المصريين على أن "قولوا لأمتكم أن الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون"،
فإن الأهداف الرئيسية للسياسات الغربية في الوطن العربي والعالم الإسلامي لم تتغير
حتى الآن وظلت على حالها منذ ذلك الحين، وهي:
أولا؛ التحكم بالموارد
والثروات الطبيعية العربية – الإسلامية التي أصبح النفط والغاز حديثا عنوانا لها.
ثانيا؛ التحكم في الطرق
الموصلة إلى هذه الموارد في المنطقة العربية – الإسلامية أم عبرها.
ثالثا؛ حماية دولة المشروع
الصهيوني في فلسطين كأداة إقليمية مضمونة دائما لحماية هذه الأهداف.
وعليه لا يوجد أي شك في
استمرار حرص الغرب بقيادته الأميركية على السياسات والعلاقات الخارجية للنظام
العربي الراهن، والحرص بقدر أكبر على تصفية أي سياسات وعلاقات عربية خارجية تشذ
عنها.
لقد أثبتت مبادرة اللجنة
الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين مؤخرا إلى تأسيس "الجبهة الشعبية للتغيير
والتحرير في سورية" أن التراث الماركسي – اللينيني وبخاصة في ضرورة منح
الأولوية للتناقضات الرئيسية على التناقضات الثانوية لا يزال هاديا للعمل الوطني
يرفض فصل العلاقة الجدلية بين التغيير والإصلاح في الداخل وبين التحرير كأولوية
تتطلب أولا تحرير السياسات والعلاقات الخارجية من أي وصاية أو هيمنة أجنبية.
وفي سورية وفي غيرها سوف تظل
العلاقات والسياسات الخارجية هي الخط الأحمر الذي يحدد سقف الحراك الشعبي العربي
الراهن في الأقطار العربية التي يستهدفها، ليرتفع هذا السقف إلى "إسقاط
النظام" أو لينخفض إلى إصلاح النظام فحسب حسب موقع أي نظام من الإستراتيجية
الأميركية الإقليمية، وسوف تظل السياسات والعلاقات الخارجية أيضا هي محك نجاح هذا
الحراك أو فشله.
(العرب
اليوم. 2011-09-21)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق