يرفض
أصدقاؤنا من سلفيي الإعلام العربي، الذين يتمترسون وراء مواقف أحادية قطعية تقصي
الحوار والنقاش، أي شك (ولو علمي) بالأحداث والظواهر المحيطة بالتغيرات السياسية
الراهنة، ويعزون هذا الشك على الفور إلى "نظرية المؤامرة"، وهي اليوم
بحسبهم مجرد ذريعة، وهوس مرضي يعانيه المدافعين عن سوريا.
ولكن
الحديث، على أية حال، كما يفترض أن يلاحظ هؤلاء لا يدور حول "نظرية
المؤامرة"، بل حول المؤامرة نفسها!
هذا
ما تؤكده دراسة منشورة على الشبكة العنكبوتية منذ العام 2009، للباحث الفلسطيني د.
محمود محارب، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القدس، بعنوان: "المقالات
الصهيونية المدسوسة في الصحف اللبنانية والسورية أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى
1936- 1939".
يخرج
المرء من قراءة هذه الدراسة بأسئلة جدية تمس جوهر وحقيقة أداء الإعلام العربي وطلائعه
المندفعة، ولا يمكلك إلا أن يردد بذهول: "ما أشبه اليوم بالبارحة!"؛
بينما سيتساءل القارئ الأكثر عمقاً وأمانة عن التحول، الذي جرى بصمت وفي الظلام
على طبيعة النخبة المثقفة، التي تم بين ليلة وضحاها استبعاد المثقف السياسي الوطني
أو العقائدي من طليعتها، لتتكون حصراً من إعلاميين "حقوقيين"، يعملون
كمكبرات صوت تردد صرخات معلمي الإنسانية من قبيل ساركوزي وجوبيه والحبر الأعظم
أوباما!
يكشف
الباحث في دراسته المثيرة والهامة، التي اعتمدت على الأرشيف الصهيوني، عن الجهود
التي بذلتها الوكالة اليهودية، أثناء ثورة الـ36 حتى الـ39، في استقطاب أهم الصحف
اللبنانية والسورية في تلك الفترة لصالح المشروع الصهيوني، وتسجيلها نجاحا كبيراً،
بمعايير تلك الأيام، من خلال نشر 280 مقالاً مدسوسا فيها، باسم هيئات تحرير تلك
الصحف أو بأسماء عربية مستعارة أو على شكل تقارير من مراسلين مفترضين، ثم ترجمتها إلى
العديد من اللغات، لترويجها في العالم الغربي باعتبارها تمثل الرأي العام العربي.
تركز جهد الوكالة اليهودية، حينها، على التأثير
في الرأي العام العربي، من خلال توجيه اهتماماته نحو مشكلات جانبية تحرف انتباهه
عن فلسطين، وتشويه النضال الوطني الفلسطيني، وطرح أجندات بديلة، وتأسيس رأي عام
عربي يقف ضد الحقوق القومية للشعب العربي الفلسطيني، ويتقبل إنشاء وطن قومي لليهود
في فلسطين.
بلغ
هذا الجهد ذروته بتأسيس وكالة أنباء مقرها القاهرة (وكالة الشرق شركة تلغرافية
لإذاعة الأنباء السياسية والاقتصادية والمالية)، لتزويد الصحافة العربية بالأخبار
والمقالات الموجهة والمدسوسة، مع مراعاة انتهاج خط تحريري يجذب القارئ العربي،
ويتسرب إليه من خلال أفكار وأساليب قريبة من نفسه؛ تماماً كما فضائيات اليوم!
وتكشف
الدراسة أنه كان على رأس مهمات "وكالة الشرق" تغذية الصراعات العربية
العربية، وغرس الأوهام حول سعي الصهيونية للسلام، والتأثير بالوضع في سوريا، وإرغام
حكومتها على ضبط اهتمامها بالقضية الفلسطينية، والتقليل من اهتمام السوريين بها؛ وبشكل
خاص عن طريق إثارة مسألة لواء الاسكندرون، من خلال المقالات ونشر الخطب التي
ألقاها القادة السوريون بشأن هذا اللواء في كتيبات.
جاء تركيز
الوكالة اليهودية على سوريا ولبنان، بحسب ما تذكر الدراسة، لأنهما شكلتا ساحة هامة
لدعم الثورة الفلسطينية منذ اندلاعها في العام 1936؛ وهنا يلاحظ عملاء "الوكالة"
جهد مواطننا الراحل د. صبحي أبو غنيمة ورفاقه مثل عادل العظمة ونبيه العظمة وشكيب
أرسلان والشيخ كمال القصاب في دعم وتأييد الثوار الفلسطينيين.
حدث هذا
في الأعوام بين الأعوام 1936 وحتى العام 1939؛ في فترة تميزت بوسائلها البدائية،
ولم تكن إسرائيل قد تأسست بعد ولم تكن قد بلغت ما بلغته اليوم من قدرات استخبارية
وتجربة في التجنيد والدس، فما هو حال إعلامنا العربي، الآن، في مطلع القرن الحادي
والعشرين..!؟
على أصدقائنا
من سلفيي الإعلام العربي، الذين يتمترسون وراء مواقف أحادية قطعية تقصي الحوار
والنقاش ولا يتورعون عن القول بأن الممانعة كذبة والمقاومة خرافة، أن يتفحصوا
أنفسهم جيداً، فوراء كل سياسة تحريرية أجندة ما، عليهم أن يتأكدوا منها، ليعرفوا
حقاً لحساب من يعملون، إن كانوا لا يعرفون فعلاً!
ملاحظة: الحصول على
الدراسة ميسور، فهي منشورة على العديد من المواقع على الشبكة العنكبوتية، ويكفي
البحث عنها باستخدام عنوانها المثبت في صدر هذا المقال!

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق