الجمعة، 13 مايو 2011

هموم الموضوعية ووهم الحياد


وجد الإعلام الورقي نفسه، مع انتشار وسائل الاعلام الاجتماعي والشخصي، مهدداً بفقدان إمتيازاته التي اتاحتها له قدرته الحصرية السابقة على توجيه الرأي العام، وكانت قد منحته إمكانية اكتساب صفة ولعب دور رسمي، في الحياة العامة. ومن حيث لا يدري، فوجئ بالمنافسة الواسعة والشرسة من قبل إعلام جديد بات يفرض نفسه على الساحة، برعاية ودون رعاية رسمية.
ومن نافلة القول أن الإعلام الورقي، هو الأكثر شعوراً بالتهديد، وضيقاً بالمنافسة، وتضرراً منها، فباتت الصحافة الاليكترونية والاعلام الفضائي يمثلان الهاجس المسيطر على أركان الصحافة الورقية؛ وعادة ما يتم التعبير عن ذلك بالاشارة إلى قدرتهما في مجال نقل الخبر بسرعة تكاد تكون فورية. وهي ميزة، تتيحها الطبيعة التقنية لهذه الوسائل الاعلامية، التي تفتح آفاقاً واسعة لتوظيف البعد المهني إلى أقصى حد، وبمقدار ما هو متوافر في هيئات التحرير.
ونظرياً، تتساوى فرص الصحافة الاليكترونية والاعلام الفضائي من ناحية الإستعدادات والتجهيزات التقنية؛ فكلاهما قادر على البث بالصوت والصورة والكتابة وتوظيف الرسوم التوضيحية وأصناف الجرافيك الثابت والمتحرك، بينما البنية الأساسية التي تكفل انتشارهما باتت متوفرة وبمتناول يد المواطن العادي؛ ولكنهما ليس متساويان من حيث الاستعدادات المهنية.
ومثالاً على ذلك، فإنه حيث تتساوى الصحافة الاليكترونية مع الاعلام الفضائي، في الامكانيات التقنية لنقل الخبر بالسرعة القصوى، فإن الاعلام الفضائي يتفوق مهنياً، بفضل الاستعدادات المهنية المتاحة له، إذ يمتلك المراسلين المنتشرين في بقاع الأرض، والمحررين في "المطبخ" من أصحاب الكفاءة والخبرة، بينما تعتمد الصحافة الإليكترونية على عدد محدود من "الأشخاص"، وتعاني فقراً مدقعاً في المراسلين، وضعفاً في التحرير والقدرات التحليلية.
والصحافة الاليكترونية تغطي على ذلك، من خلال "السطو" على الوكالات والصحف الورقية والاعلام الفضائي على حد سواء؛ وهنا يجب أن نلاحظ أن أبرز "مسروقات" الصحافة الاليكترونية من وسائل الاعلام الأخرى، هي مقالات الرأي تحديداً، التي هي في الغالب تستقطب الكثير من التفاعل قراءة، وتعليقاً، وإرسالاً.
ويبدو أن هذا ما يبقي الصحافة الورقية على قيد الحياة في عصر رقمي، هو "الرأي". وكان إلى وقت قريب منبوذاً، بوصفه البوابة التي "توقع" الوسيلة الإعلامية في "التورط" باتخاذ موقف. بينما كان الإعلام التقليدي، ولا سيما الورقي منه، يتمترس طوال الوقت وراء ادعاء زائف بحيدته وحياده، وابتعاده عن اتخاذ موقف أو الانحياز لموقف بعينه خلال تقديم الوجبة الإعلامية.
و"الحيدة"، بطبيعة الحال أسطورة وكذبة صغيرة، فالحياد في الإعلام كما في الحياة هو أمر غير ممكن، ومستحيل بقوانين الفيزياء والفلسفة على حد سواء. كما أنه مرفوض أخلاقياً. هذه الحقيقة تفرض نفسها اليوم مع متغيرات الحياة، لا سيما في مجال الإعلام، فبتنا نرى أن الإعلام الورقي ينتقل تدريجياً إلى الاعتراف بهذه الحقيقة، مقراً بأن الحياد أسطورة؛ وأن المهنية لا تتنافى مع الانحياز، بحد ذاته، ولا تتأذى بتسويق الرأي، ولكنها تتعارض مع إخفائه وعدم الاعتراف به.
وعموماً، فإن الاشتراط المهني يقضي بالموضوعية وليس بالحياد. والموضوعة تقتضي امتلاك (أو بالأحرى عدم اخفاء) الوسيلة الاعلامية لموقفها وانحيازها، وعدم تحكيمه في مزاولتها لرسالتها الاعلامية. ومن هذه البوابة، بدأت المشاريع الإعلامية الحديثة تتجه نحو صحافة الرأي، سواء الكترونياً، أم فضائياً، أم ورقياً. وهذه الأخيرة يبدو أنها الأكثر حاجة إلى هذا التوجه!
ولهذا، تكتسح اليوم، في العالم صحافة الرأي، التي تمتاز باعتماد القصة الخبرية بتغطياتها للأحداث والأخبار، إلى جانب اهتمامها بالتحليلات والتقارير ومقالات الرأي، تحديداً، وتنأى بنفسها عن التعامل التقليدي مع وكالات الأنباء، حيث تتجنب استخدامها كمورد للمواد الصحافية، وتوجه استعانتها بها نحو استقاء المعلومات منها، حصراً، للافادة منها باعداد المادة الصحافية.
من المعلوم طبعاً أن المستوى الثقافي لأي وسيلة اعلامية تعتمد على نفسها، يساوي معدل ثقافة العاملين فيها؛ لذا فالتحرر من "الوكالات" والتوجه نحو الاعتماد على الذات، يعني التحول من نمط "إدارة التحرير" التقليدي إلى "إدارة المحتوى"؛ وبالتالي، انشاء "مطبخ" للتحرير، يفكر ويوجه ويقيّم ويضع أولويات التغطية ويصمم شكلها، ثم يسهم بانتاج المادة الصحفية.
وبهذا، فإن الحاجة إلى التحول إلى صحافة رأي، اوجدت كذلك حاجة ملحة إلى استعادة الثقل المثقف على الصفحات، لأنه يسد النقص الحاد الذي نجم عن الإغراق في الاهتمام بالأخبار الخفيفة والمنوعات، ناهيك أن المثقف صحافي قادر على التحرر من الخبر والنفاذ إلى ما وراءه، ليقدم تحليله أو قصته الإخبارية، أو مقال الرأي.
ومنذ أيام، تابعنا حدثاً كبيرا تمثل بمقتل اسامة بن لادن، واضطرت الصحافة إلى التلقي السلبي من الوكالات، ولكن صحافة الرأي التي تمتع بقدرة أعلى في مجال "إدارة محتوى" استطاعت أن تقدم متابعات ممتازة للحدث بدون مواد من وكالات ومراسلين؛ والأمر بسيط: أخذ المعلومة، التي لم تعد حكرا على الوكالة وباتت تملأ الفضاء الإعلامي الحر، وإنتاجها بشكل يستمد خصوصيته من خصوصية "الموقف" و"الرؤية" و"زاوية" النظر الخاصة.  
وبدون "إدارة محتوى" فإن الصحف الورقية تركن إلى مواد الوكالات، وتبقى رهينة معاناة خضوع "التحريري" لـ"الإداري"، لنكون إزاء وضع مشابه لوضع وكالة استخباراتية تفشل تحليل المعلومات المفيدة الكثيرة التي يوفرها لها عملاؤها؛ وفي صحافة اليوم التي شهدت ما شهدت من مستجدات نوعية في التقنية والمفاهيم، لم يعد السبق مقصوراً على السرعة والإنفراد بنشر الخبر، بل على تصميم "الوجبة" الإعلامية حوله، وشكل اخراجه.. وباختصار، نحن نتحدث عن الإدارة الجيدة للمحتوى.

ليست هناك تعليقات: