الجمعة، 22 أبريل 2011

الأب والابن وروح نيسان!

ذكرني أصدقاء أرسلوا لي رابط موقع "خبرني"، بمناسبة نشره ومواقع أخرى لقائمة تذكيرية حول هبة نيسان وشهدائها (14 شهيد) ومعتقليها، بأني كنت واحداً من هؤلاء الأخيرين؛ وقد لفتني استخدام اثنين منهم، كل على انفراد، لمفردة "أسرى" بدلاً من "معتقلين"؛ ولم أحتج إلى وقت طويل لأتيقن بأن استخدام هؤلاء لهذه المفردة بالذات، لم يكن من قبل زلة اللسان؛ فذا حال من يعتقل في ظل تعطيل دستور البلاد وتجاوز القوانين واختطاف الوطن والمواطنة بالأحكام العرفية!
وهذا، كذلك، حال الشهداء، الذين لم تعترف الدولة لغاية اليوم بدمائهم وشهادتهم، لأنهم سقطوا بالأوامر المتغطرسة لعقليات عاشت محصنة مصانة ضد المحاسبة حتى هذا اليوم؛ وبلغت حصانتها أن استمرت في الحفاظ على موقعها في قمة النخبة التي تقود البلاد، في حالة من حالات الصلف الذي لا يغتفر وتبديها الأنظمة السياسية المتخلفة لتأكيد قوتها ومنعتها وحصانتها؛ وبعض هؤلاء مثل زيد الرفاعي، رئيس الوزراء حينذاك، لم يقنع بالتنحي إلا بعد أن أعاد إنتاج نفسه من خلال تقديم ابنه للسلك العام من أوسع الأبواب وأيسرها، محفوفاً بالعناية التي تكللت بتعيينه رئيساً للوزراء!
ولم يكن وجه الابن على الأردن خيراً من وجه أبيه؛ فكلاهما كان نذير أزمة واضطراب، وسبباً في هزات اجتماعية كبرى؛ فكان من العدل أن يخرج الابن من رئاسة الحكومة، مثلما خرج أبوه، غير مرغوب به من الأردنيين، وجاء إخراجه استرضاء لهم!
ولسوء الحظ، فإن الرفاعي الأب والابن ليسا الشيء الوحيد الذي يربط نيسان 89 بنيسان 2011؛ فالصلف في التعامل مع إرادة الشعب، والتجاوز على الحقوق المدنية، والاستعانة بالحلول الأمنية في محاولة معالجة الأزمة الاجتماعية، والتورط بجرائم بـ"حق الإنسان"، كلها حاضرة اليوم، وبصورة لا تقل سوءاً وفداحة.
وهنا، بهذه المناسبة، وبصفتي واحداً من أسرى هبة نيسان وشاهداً عليها، يتحتم علي تقديم شهادة جزئية جداً، ولكنها بنفس القدر ضرورية، إذ استدعتها هذه اللحظة الأحداث والتجاوزات الأخيرة.
كان المعتقلين من معان بالعشرات، وأكثر كثيراً مما أوردت وسائل الإعلام المحلية والأجنبية، ويفوق عددهم كثيراً العدد الذي صرحت به الحكومة؛ وكان من الواضح أن الكثير من هؤلاء لا علاقة لهم، وتم اعتقالهم بطريقة "الشفط" العشوائي؛ بمعنى أنه تم اعتقالهم بطريقة تمشيط الحارات والبيوت واعتقال كل من يقع بيد الأمن، وفق توجيهات ترى في كون المواطن "معاني" سبباً وتهمة كافية للاعتقال، وكان الأطفال والأحداث تحت السن القانونية نسبة كبيرة من هؤلاء.
كان الأطفال الأحداث من كل الفئات العمرية، لكثرتهم؛ وكان يتم التعامل مع هؤلاء بطريقة لا تتناسب مع أعمارهم، ولا تليق أساساً بالتعامل المتوقع، حتى من أجهزتنا الأمنية، مع المعتقلين، بغض النظر عن تهمتهم. وكانت طفولة بعضهم، وحداثة سن بعضهم الآخر، تشجع بعض أفراد الأمن على استمراء أهانتهم وإذلالهم. وهذا وحده كاف لمنعي من استساغة أعراس التضامن مع "القبضة الأمنية"، التي تجري اليوم.
الشيء الذي لا أنساه أبداً هو لحظة من المشهد الطويل الذي ظللت أشاهده طوال يومين، أو ربما أكثر (أحياناً يضيع التسامح الفطري التفاصيل)، الطريقة التي كان يتم فيها التعامل مع معتقلي معان من الأحداث والأطفال، وكيفية سوقهم في الممر الطويل الموحش من مكان إلى مكان، بحقد من تمت تعبئته للتعامل معهم كأعداء.
ولا أنسى أنه بينما أفراد الأمن كانوا يسوقون مجموعة جلهم من أطفال معان، الذين خيّم الخوف والذهول على وجوههم، كان هناك طفل دون العاشرة بسنوات (ولم يكن وحيداً بهذا العمر) تأخر في المسير عن الجميع، وقد اعتراه الذعر وراح ينادي أمه مستغيثاً، بينما كان يبكي (طفل. ماذا بوسعكم أن تقولوا..!؟)؛ ولا داعي لذكر طريقة التعامل معه، لأنها في كل الأحوال لن تكون مناسبة للتعامل مع طفل مكانه الروضة لا سجن سواقة الصحراوي، ويفترض أن تتعامل معه "مس" رقيقة لا سجان متغطرس!
ولا أنسى، كذلك، أنني علمت، لاحقاً، أن السيد زيد الرفاعي كان حينها يدخن سيجاره الكوبي، ويقول لصحافي سأله إن كان يفكر بمغادرة البلاد بناء على المطالبة بمحاكمته، بأن أحداً لن يستطيع محاكمته، ويعلق: "يسووا اللي بدهم اياه. أنا مش طالع من البلد..!"، فتنشر إحدى الصحف تقريراً مطولاً عن علاقته بالراحل الملك حسين وعن مزارعه في الغور وولعه بتدخين السيجار الكوبي.
وبالمحصلة، فهمنا من التقرير الصحفي في حينه أننا مضطرون لدفع ثمن العلاقة القوية التي ربطت زيد الرفاعي بالراحل الحسين؛ ونخشى اليوم أن ندفع كذلك ثمن أية علاقة قوية تربط أي "زيد" جديد بالملك. لذا، فإنه يجدر بالأردن أن يتعامل مع المسؤولين من هذا المستوى بناء على الثقة العامة التي لا تحصن المسؤول ضد المحاسبة، وليس استناداً إلى الثقة الملكية السامية، التي تجعله محصناً ومصاناً ضد كل أنواع المساءلة.
وبمناسبة الإدعاء الزائف المتضخم بشفافية تعامل أجهزتنا الأمنية مع المواطنين، في الظروف العادية والحرجة، أستذكر أن الاقتحام الفج وغير القانوني لمدرسة، واختطاف حدث منها، للتحقيق معه حول ظهوره في تقرير تلفزيوني، مثال بسيط على التجاوزات الأمنية على حقوقنا المدنية، التي بلغت حد الاعتداء على الطفولة.
وهنا، أود أن أشير: إن أطفال معان 89 هم اليوم آباء لأطفال وأحداث بعمرهم الذي دخلوا فيه سجن سواقة على إثر هبة نيسان المجيدة؛ وهم وأبنائهم يحملون اليوم ذكرى "الأمن الخشن"؛ الذي لم يردعهم أطفالاً وأحداثاً..
وأختم، فأقول: إذا كان أهل السلطة وأركانها يعتقدون أن مطالب الإصلاح كبيرة، فذلك لأن شيئاً لم يتغير منذ هبة نيسان حتى اليوم، ولأن القليل الذي حققته "الهبة" تم الالتفاف عليه وابتلاعه!

ليست هناك تعليقات: