الأربعاء، 30 مارس 2011

الجسم الذي يبرأ يموت


أولئك الذين يستعجلون نهاية للأحداث العربية، يجب عليهم أن يدركوا أن ما يجري اليوم في العالم العربي ليس مجرد مسيرة طارئة، ولا مظاهرة عارضة، أو اعتصام محدود، أو غير ذلك من مظاهر الاحتجاج المؤقتة، بل هو حراك سياسي اجتماعي واسع وشامل، ابتدأ ببعض أو كل ما سبق، ولن ينتهي إلا بالمشاركة السياسية الواسعة والمتواصلة والكاملة.

هذا ما يجب أن يفهمه تحديداً وزراء الداخلية العرب نافذي الصبر ومعاونيهم العجولين!

ويتوجب علينا أن نعيد تنبيه وزير داخليتنا النائم في المشمش: ما نشهده هذه الأيام ليس حدثاً أمنياً، ولا مجرد اضطراب سياسي واجتماعي؛ ولكنه تحول تاريخي مستحق منذ وقت طويل؛ والتاريخ لا تسيره عصا رجل الأمن، ولا تثنيه إرادة السياسي عن بلوغ منتهاه، ولا يحبطه استنكاف قوى التغيير عن التصدي لمهماتها. 

وبالنتيجة، فإن القرون الوسطى في العالم العربي تنتهي في هذا العام؛ وأن هذه النهاية تحرر طاقات الشعوب المغلوبة على أمرها، وتمكنها من الدخول في القرن الحادي والعشرين، بعدما فوتت سابقه، لتنطلق في مسيرتها طويلة نحو السيادة الكاملة لدولها، والاستقلال لأوطانها، والحرية لها هي نفسها.

لقد سجلت الأنظمة العربية، التي عيّشت شعوبها خارج التاريخ، عجزاً شاملاً عن تقديم صيغة مرضية تلبي الحد الأدنى من التنمية الوطنية والعمل العربي المشترك ووضع سياسة للأمن الوطني والقومي على المستويات كافة؛ إذ رهنت كل ذلك بوجودها وأمنها وشروط بقائها. وهذا ما انعكس بأسوأ صورة على الدولة وأجهزتها ووظيفتها السياسية والتنموية على حد سواء.

إن تحرير طاقات المجتمع وإطلاقها، وتوسيع نطاق المشاركة في العمل العام بأوجهه المختلفة وإتاحة الفرص الاقتصادية للجميع وتحرير الاقتصاد من هيمنة الشرائح المتنفذة ورفع ولاية "الأمني" عن "السياسي"، لم تعد كلها حاجات تتوق إلى تحقيقها الفئات والشرائح المسحوقة والمهمشة فقط، بل أضحت حاجة للدول نفسها وقد أنهكها فشل الطبقات السياسية التي هيمنت لعقود، فلم تراع إلا مصالحها وتعزيز نفوذها وتكديس المكاسب على حساب المواطن ودولته معاً.

لقد باتت الدولة، كجهاز سياسي وإداري، بحاجة إلى الاصلاح بكل ما يحمل من إمكانيات للتغيير والتجديد؛ على مستوى السياسات والكفاءات البشرية؛ وبما يتعلق بهذه الأخيرة هناك حاجة إلى دماء جديدة متحررة من المصالح المتراكمة التي أعاقت لعقود تقديم خيارات ومقاربات متنوعة ومختلفة تضمن لمجتمعاتنا الدخول في التاريخ.

واليوم، وصل التاريخ في زيارة عمل طويلة إلى العالم العربي، ومن المؤكد أنه لا يحل ضيفاً هذه المرة على أنظمة الحكم، ولكنه ينام مع المعتصمين في ميادين التغيير، ويشاركهم الهتاف والتطلعات، ويمدهم بالإرادة على الصمود والثبات في معركة التغيير، ومن الواضح أنه عاقد العزم على عدم مغادرة المنطقة قبل أن يودع في أيدي الشعوب مفاتيح التحكم بمصيرها.

وعملياً؛ فإن الإصلاح ليس موضع سؤال بحد ذاته، فهو فرض تاريخي حان أوان استحقاقه، ولكن السؤال يدور حول الثمن الذي قد يتطلبه، وهذا مرهون بطبيعة القوى التي قد تجد نفسها مطالبة بالتغيير؛ فالممانعة تجر الأثمان الباهظة. والاستجابة تحقن الدماء، وتوفر الأثمان، وتفتح الباب أمام الاستقرار والسلم الأهلي، وتؤمن انطلاقة نحو المستقبل.

وبالمحصلة، لسنا أمام حالة مؤقتة، تعالج بالإنهاء، ولكننا إزاء حالة مستمرة ودائمة يحسن التعامل معها بتطوير أدواتها المدنية، وتمكينها من التحول إلى وسائل ديمقراطية منظمة، تضمن ديمومة لهذا الحراك لا تتناقض مع الاستقرار.

ولا بد هنا، من تسجيل ملاحظة: الجماهير والشعوب المحتجة، في أغلب الحالات الناضجة كما رأينا في تونس ومصر، أكثر انضباطاً وحرصاً على مقدرات وأمن بلادها من القوى التي خرجت باسم الدولة والقانون لتقمعها، مدعية الدفاع عن الدولة والمصالح العامة والخاصة من "التخريب"!

وقد رأينا أن شعارات الحفاظ على "المصلحة العامة" و"الدولة"، التي كانت ترفعها تلك القوى بينما كانت تسعى لمنع المتظاهرين من ممارسة حقهم الطبيعي، تكشفت في النهاية عن مصالح شخصية محضة، تقوم بالأساس حقوق الشعب المغتصبة..!

 وبالمحصلة، فإن الحراك الذي تشهده المجتمعات العربية هو حراك صحي، من حيث هو كفيل بإطلاق طاقاتها وتحريرها من الخيارات المحدودة في السياسات والبشر؛ ومقدار صحة وعافية هذا الحراك مرتبط بقدرته على الاستمرار والتبلور في حراك سياسي واجتماعي دائم يعمل في أطر منظمة، والانتقال من الحالة الاحتجاجية بعد تحقيقه أهدفه الاصلاحية العاجلة إلى مشاركة سياسية فاعلة ودائمة.

أما وزراء الداخلية العرب، وعلى رأسهم وزيرنا، الذين يرون في كل هذا الحراك ظاهرة أمنية مزعجة، وفيروساً مرضياً يجب القضاء عليه، والشفاء منه، فأولى بهم أن يلاحظوا: لم تعد المجتمعات العربية بقادرة بعد الآن على الحياة في حالة السبات التي عاشتها طويلاً.. أما هذا "الفيروس" فهو حميد ودليل حياة، والجسم الذي يبرأ منه.. يموت!


ليست هناك تعليقات: